أخاديد مرآة
أمسكت زهرة بمرآتها الصّغيرة ووضعتها قبالة وجهها، انتفضت يدها وكادت تسقطها، إلّا أنّها اجبرت أعصاب يدها على تثبيتها؛ لأنّها أجرأ من أن تخشى رؤية الأودية والأخاديد التي حفرتها السّنون المطويّات على سهول وجهها.
بثّت إشعاعا بصريّا قويّا لترى بوضوح تلك الأودية التي فاجأها سحقها. فهي قد أهملت النّظر إلى مرآتها منذ مدّة طويلة. دهشت بعيد النّظر إليها مليّا؛ لأنّ زجاج مرآتها يتموّج لتصبح عدّة مرايا، وأحسّت كأنّها تقف في غرفة للمرايا.
فركت عينيها بيدها الثّانية، حيث اعتقدت أنّ ضعف بصرها بنى غشاوة على سوادهما، وشوّش رؤية الأشياء على علّاتها.
وعبثا كان ذلك...
اتخذت وضعيّة الجلوس وأسندت مرآتها أمامها، والشّوق يغلبها لمخاطبتها بعد هجرها الطّويل. راودها شعور أنّ المرآة تبادلها مشاعر الحنين والتّوق إليها؛ لذلك ترى لها أطيافا وتكرارا غير محدود...
لن أخفي عليك يا مرأتي توقي إليك، أعرف أنّك تقصدين جذبي للنظر إلى الأخاديد التي أريتني إيّاها بأطوال وأعماق متنوّعة؛ لتجبريني على الجلوس والغوص داخلها بمعيّتك.
حسنا. لن أبخل عليك.
أمّا هذا الأخدود الطّويل العميق، فهو أخدود طفولة اليتم التي حفرت مخالبُها وجهي، وأنبتت أشواكا في دروب حياتنا- أنا وأخي- تخز أجسامنا كلمّا عبرنا. كان ذلك بعد أن زُوّجت أمّي من رجل آخر؛ خوفا على جمالها وشبابها من أطماع الذّئاب بعد وفاة أبي.
وكنّا قويين رغم ما ترينه محفورا في وجهي...
كان يوما من أيّام الخريف عندما أيقظني طائر الدّوري الذي أطلّ من شباّك بيتنا ليبحث عن طعامه، فطمعت في إمساكه كي يؤنس وحدتي ووحدة أخي، الذي لا يحبّ اللّعب وأولاد الحارة؛ خوفا من سماع كلمة (المسكين) التي يتقاذفونها فيما بينهم لدى رؤيته.
لا نريد الشّعور بأنّنا مساكين، وسوف نغرّد نحن والعصفور.
تربّصتُ له ووضعت الحبوب على حافّة الشباك، فأبى ضيافتنا ومشاركتنا. فالحرّيّة ترفض أن تكبّل ذاتها.
لم نيأس، ودبّرنا حيلة أخرى فوقع في الفخّ، وخسر حرّيّّته، وفزنا بمتعتنا بصحبته! لقد كان لنا ملجأ ومستراحا نبثّه ما نعاني.
إلّا أنّ هناءنا لم يدم طويلا... ففي ذات الخريف أفاقت العائلة باكرا، والهواء الجافّ يربكها في اتخاذ قرار الذّهاب إلى الحقل... وفي النّهاية قرّر كبير العائلة - ولا بدّ من الانصياع له - أنّ الجميع سيعملون وكذلك الأولاد ، فاليوم عطلة.
لا أذكر كم كانت سعادتي حينها لأنّي سأجلس تحت إحدى الزّيتونات، وأستعيد ذكرى أبي الذي اتخذتُ من حضنه مفرشا؛ ليحكي لي حكاية أغفو على ترانيم كلماتها. ولا تغيب عن بالي سيول الدّموع التي انهمرت من عيني أخي معلنا رفضه مرافقتنا. فلا ذكريات لديه ينبش تربتها ويستخرجها مثلما فعلتُ. لكنّه أُجبر على الذّهاب ، ورضخ لأوامر كبار العائلة.
هرولنا صوب الحقل الذي بات يعني لي منذ ذلك اليوم كما كهوف "ابن لادن" بالنسبة للأمريكيين، وكما القفص لعصفور الدّوري.
بكى أخي مذ وطأت قدماه المكان، وبدأت موجات عويله تلاطم الحقل وترابه، وما كان منه سوى أن يركض بحثا عن مكان يختبئ فيه ومشاعره حتّى موعد العودة مساء .
سياج الحقل شجيرة صّبار. بحث في حواشيها وداخلها عن مخبأ، فرأى تجويفا. دخله واتّخذه مجلسا مهدّدا من يحاول الاقتراب لإخراجه بقذفه بلوح من الصّبار.
ابتعدت عنه وقطرات دموعه موادّ كاوية تحرقني. فهو أخي الذي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات. ألتقط حبّات الزّيتون وعيناي لا تفارقانه. خفت عليه من شوك الصّبار الذي سيزيد شوك اليتم وخزا…
داهمت مخيلتي صورة انهيار كلّ الألواح، فيُدفَن تحتها…
الدّم يسيح منه مبلّلا ما حوله … آهاته تشقق الأرض… مخارز الألواح تجعل جلده مُنخُلا… ذئاب الجبل تشتمّ رائحة الدّم فتنزل لتسرق فريستها.
هول المشهد يردّ لي صحوتي، فأبدأ بإصدار دويّ صارخ ردّد الجبل صداه... ودخلت لأنتشله غير مدركة العواقب التي تركت هذه النّدبة المحفورة في وجهي، وركضت وإيّاه لأطلق سراح الدّوري وأخلّصه من أشواك قفصه، موقنة أنّ اغتصاب الحرّيّة لا يوازيه اغتصاب.
أمّا أنت أيّها الأخدود الثاني، فإنّك تطوي بين تعاريجك محطّة من محطات شبابي.
كان اهتمامي في" دوّار" الشّباب هو نقطة المركز التي تُضيّق محيط هذا الدّوّار وتوسعه. فنحن ننطلق منه طامعين بتجاوز محيط دائرته لدخول حلقات أخرى؛ لنرقص على دقّات وأنغام رقصات الحياة طربين .. لكن، أحيانا تتعثّر أقدامنا بحصوات تحاول الإعاقة.
اخترت مهنة التّمريض.. فالنّصوص الأدبيّة التي تعلمناها صغارا طبعت وشمها على فكري حين صوّرت الممرّضة ملاكا للرّحمة، يحنو على جراحنا فتلتئم.
نجحت وعملت في أحد المشافي. وشاءت الأقدار أنّني لم أكن بالنّسبة لأحد الأطبّاء السّاعد اليمنى؛ بل الهواء الذي تنفّسه كما قال لي ذات مرة، عندما نصحته بأخذ قسط من الرّاحة، حين كان مرهقا، وزفير أنفاسه يتطاير ممزوجا برائحة الأدوية وأنين المرضى.
يومها شعرت أنّ الدّم الذي في عروقي قد غُيّرت مكوّناته ، لأنّ تلك الكلمات امتزجت به مسبّبة سرعة التّدفق وتضخم الشّرايين، التي تغذّت بدم مجبول بأوكسجين البؤس والمعاناة...
خشيت التّغيير المفاجئ. فلربّما يسبّب جلطة مشاعريّة روحيّة .لكنّ "إسبرين" كلماته منع التّجلّط وأماع الدّم ...
غمرني شعور أنّ جلباب السّعادة وسّع من أردانه ، وأطال ذيله ليلفّني إغداقا، وشكرت الله الذي زرع في أحشائي نواة جديدة، بدأت تبرعم بعد طول شقاء.
ازدادت لقاءاتي بالطّبيب، وصارت دفقات الحبّ تندلق عليّ، مغرقة كلّ كياني ووجدتني داخل سجن حبّه وعشقه دون البوح له بذلك ؛ مع أنّي تواعدت وأنايَ ألّا أَسجن أو أُُسجن بعد إطلاق سراح الدّوري، ورفع لواء الحريةّ!
كانت كلماته تزيد من تقييد حواسّي بسلاسلها النّاعمة ،كلّما زادت لقاءاته.
كان لقاءا مميّزا يوم أبلغني أنّ شوك أشواقه الذي يخز كلّ كيانه، يطير ويحطّ إبرا على عواطفه وقلبه؛ مسببا التورّم، فيسرع الخطى لمداواته بالمضادّ الحيويّ بلقائي به حيث يفجّر دمّل شوقه، ويسيحه حنينا وشوقا...
تذكّري هذا جيدا يا حبيبتي واعذريني... وأنا على يقين أنّك ستسامحينني؛ لأنّني لن أتمكّن بعد الآن من بثّ لواعج عشقي ومداواة جروحي . إنّني مضطر أن أتزوج الفتاة التي خطبتها قبل معرفتي بك !!...
أحسست حينذاك أنّ القيود الحريريّة التي قيدتني بها كلماته الجميلة، قد تحوّلت إلى سلاسل حديديّة برؤوس حادّة فتتت كياني أشلاء... ولكن، ساعدني في لمّ اشلائي - بعد حين - شعاري المختوم بختم الحرّيّة.
وجَّهَت نظرها نحو الأخدود الثالث، الذي كوّنته ندبات كثيرة. أخذت نفسا عميقا واسترسلت في حديثها:
أمّا أنت يا عمري الأكثر أهميّة، فقد تذوّقت فيك مرارة الصّبّار حتّى بتّ أستسيغها ...
جلست تحت "برميل" تجفيف الشعر لأجهّز عروسا لعريس اتّفق أفراد عائلة أبي أنّه الأنسب من بين الشّباب الذين تقدّموا لطلب يدي. فسيّارته الجديدة لا أحد يملك مثلها، وجيبه لا يزال منتفخا بعد بناء بيته الفاخر. وبعد ترشيح نفسه ليكون زوج المستقبل فاز بأغلبيّة الأصوات إلّا صوتي الذي تأخرت في الإدلاء به، لأنّ مشاعري ومفاتيحها بقيت رهينة الطّبيب الذي غشّني وسرق عواطفي.
بعد تفكير عميق، قررت استرداد المفتاح، واستعماله في فتح الباب الملائم: باب العقل وليس العاطفة. وقرّر العقل الموافقة على الزّواج لأنّي سأحظى بالغنى العاطفيّ كما الغنى المادّي المبسوط أمامي . وفاض فرح القلوب غامرا أصحابها لتحديد يوم الزّفاف...
فجأة، تملّكني شعور بأتّي أجلس تحت برميل اخترقت حرارته خصلات شعري لتصل خلايا عقلي، وتحرّرها من عقال التفكير المنطقيّ ، ويشتدّ سعير أتّون مشاعر الخوف فيما أنا مقبلة عليه - رغم أنّ العقل هو الذي اتّخذ القرار- وخشيت أن يحيط البرميل الحارّ المحيط برأسي جسمي ، ويقذفني للمرّة الثاّلثة في عمق يصعب الخروج منه ...
لا... نَحّوهُ عنّي، لن أبقى تحت سعير جهنم هذه ... صرخت فدُهش الحاضرون ولم أعر دهشتهم انتباها وخرجت لأزفّ عروسا.
عشت فترة هناءة وسعادة، ولكن، ظلّت بقايا حرارة الأسى التي أحسست أنّها اخترقت دماغي يوم تزييني عروسا، تعشّش في داخلي، ليعاود فتيلها الاشتعال، ويحرق شرايين قلبي وبجمّر بؤبؤي عينيّ، حين تكلّل بؤسي بولادة طفل مطفأٌ نورُ عينيه، فأوقعني حزني داخل هوّة سحيقة، لينشلني منها بعد معاناة صعبة، لمعان كلمات ينبعث من قعرها، ويضيئها بنوره الوهّاج مصباح : "إنّ مع العسر يسرا".
انتفضت زهرة لسماع صوت ابنها، وانتبهت أنّها أمسكت مرآتها مدّة لا بأس بها، في حين تناولتها لتضع على عجل مساحيق التّجميل للمحافظة على بشرتها من الجفاف ، فتراءت لها أخاديد تحدّت هذه المساحيق، وراحت تغوص بين ثناياها...