المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد البياسي
تكالبت علينا اقلام الحداثيين كما تتكالب الأَكَلةُ على قصعتها , و ذلك من قِلّتِنا و كثرتِهم.
و لكنْ :
" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين " صدق الله العظيم .
و بعد :
ربما لا يعي كثيرون ما الفرق بين الحداثة و التجديد !!
و ربما التبسَ الأمرُ على بعض الكتّاب و المفكرين ايضا ...
و لكنّ المهووسين بالحداثة الذين يريدون أن يسوّقوا لها عن طريق خلط الاوراق يَعُونَ تماما ما الفرق بين هذين المفهومين .
باختصار شديد : الحداثة هي انقلاب كامل على كل ما هو موروث .
اما التجديد : فهو الاحتفاظ بالموروث و تطويره بما يناسب الزمان و المكان .
قال غوته شاعر ألمانيا الاول و شاعر اوروبا العظيم :
" لولا امرؤ القيس لقلت إن هوميروس هو أشعر شعراء العالم , لانه في شطر واحد وقف و استوقف و بكى و استبكى و ذكر و استذكر "
غوته شاعر ألماني و ليس شاعرا عربيا !!!
فبرأيه ان امرأ القيس هو أشعر شعراء العالم , مع ما لشعرهوميروس من سطوة وهيمنة في عالم الشعر منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة , و لا يختلف النقاد في أن هوميروس
هو من أشعر شعراء العالم على مر العصور و الازمان.
ما زالت " إلياذة و أوديسة " هوميروس تدرّسان في معظم كليات الآداب في العالم , و لا تكاد تخلو دراسة شعرية من ذكر هوميروس و ملحمتيه الاسطوريتين في عصرنا الحاضر, و تكاد الكتب و الدراسات تخلو تماما من ذكر حتى اسم امرئ القيس عند دراسة الشعر العالمي.
و الادهى من ذلك أن نجد معاول بعض الادباء العرب التي صقلتها المدارس الفكرية الفرنسية , تحاول هدم الصخرة العملاقة أو انكار وجودها أصلا , التي ارتكز عليها النحو العربي و هي الشعر الجاهلي , و من هؤلاء طه حسين الذي لقب في وقته بعميد الادب العربي !!!!!
يقول : " شكّكتُ فى قيمة الأدب الجاهلي, وألححت فى الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا, ليس من الجاهلية فى شئ. إنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم, أكثر مما تمثل حياة الجاهليين " !!!!!
اكتشاف مذهل , مرّ على الآلاف من شعراء و أدباء العرب منذ ألف و أربعمائة عام , و اكتشفه صاحب البصيرة الثاقبة طه حسين المتخرج من المدارس الديكارتية والمتزوج بفرنسية كاثوليكية و المتعمد في كنيسة تابعة لإحدى قرى باريس لمباركة زواجه هذا .
و يقول :
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي"
التوراة و القرآن لا يكفيان للإثبات !!! و لكن النظريات الشكوكية الديكارتية هي التي ستثبت إنْ كان وجود ابراهيم و اسماعيل حقاً أم لا !!!
ما أشد وقاحتك ...
"لقد استكبروا في انفسهم وعتوا عتوّاً كبيرا" .
اكتشاف مذهل أيضا مرّ على ملايين البشر من المسلمين و النصارى و اليهود , و اكتشفه نافذ البصيرة طه حسين !!!
قال طاغور حكيم الهند و شاعرها :
" إن عقلا كله منطق كمدية كلها نصل , تجرح اليد التي تستعملها " .
في منتصف القرن العشرين و تحديدا سنة 1947 وُلِدَ مسخٌ مقيتٌ في العراق , اُطلق عليه فيما بعد اسم شعر التفعيلة , و لم يزل يكبر ويتسرطن حتى تمكن من جسد الشعر العربي , و تفرّعت منه لاحقا تسميات أكثر مقتا , مثل الشعر الحر و القصيدة النثرية و ما الى هنالك من مسميات يحلو للمتطفلين على الشعر العربي اطلاقها على تخاريفهم الشعرية, و لم يسلم من هذه العدوى الشعرية الا القلة القليلة من الشعراء , و لم يزل هذا المسخ ينتقل من حضن الى حضن و من بيت الى بيت حتى وصل الى الحضن الذي فيه من الدفء ما لم يجده في غيره من الاحضان و الى البيت الذي فيه من الرحابة ما لم يجده في غيره من البيوت .. أدونيس .
علي أحمد سعيد إسبر , سوري ,من قرى اللاذقية , اختار لنفسه أولاً اسم " أدونيس " و هو اسم لأحد آلهة الفينيقيين ,ثم ثانياً خلع عنه لباس العربية و الاسلام بالاعلان صراحة عن إنكاره لكل ما هو موروث و قديم , و الموروث والقديم في رمزه هو الاسلام و العروبة فقط , و قد ضحى هذا الادونيس بكل ما يملك من أجل تمييع هوية الأدب العربي و التاريخ الاسلامي , و ما زال يتنازل و يضحي في سبيل أن يكسب رضا المانحين لجائزة نوبل.
يقول :
" ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب هو تأسيس عصر عربي جديد . نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض بادئ ذي بدء الانفصال كليا عن الماضي، نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال التأسيسي هي النقد: نقد الموروث ونقد ما هو سائد شائع , إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، وهي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها ".
هذه هي الحداثة أيها السادة : الانفصال عن الدين تماماً... و عن الماضي لماذا ؟ لأنهما عالمان من الضياع والوهم !!
لقد قال الرجل رأيه في الدين بكل صراحة، ولم يكن ذلك الدين إلا الإسلام، أما المسيحية و اليهودية فقد حظيتا باحترامه، فلم يتعرض لهما بأي نقد !!
وقال عنه أحد تلامذته الذين هم على شاكلته : لدينا العشرات من أمثال نزار قباني ولكن هناك أدونيس واحد فقط . و أنا أقول له : كذبتَ , بل لدينا نزار قباني واحد , أسطورة لن تتكرر , كما لن يتكرر المتنبي و امرؤ القيس , و لدينا الآلاف من أمثال أدونيس الذين تطفلوا على الشعر تطفل المشردعلى الموائد و الاعراس.
و أنا اتكلم عن شعر نزار العمودي فقط , أما شعره التفعيلي و الحر فلايعنيني في شيء .
يجب الا ننسى أيها السادة أن الاعلام هو العنصر القاهر في التسويق , و الاعلام لم يكن يوما في العصر الحديث بيد العرب , لذلك فقد طغى تفخيم بعض شعراء اوروبا و العرب على وضاعتهم في الاعلام العصري وصنعت لهم من الضجة الاعلامية ما أصمى آذان المهتمين عن غيرهم من العمالقة لمجرد انهم يسايرون الغرب و يقلدونه تقليدا اعمى.
محمد البياسي