قصّة بدأت بحركة الشّخصية المعروضة، مُرفقة بخوف وحرص لدرجة الفزع. فالحركة جسمانيّة ونفسيّة قلقة. التّلفّت هو القلق الجسدي والجزع هو النّفسي. والعربة هي الحياة ودورة الزّمن، فحركتها تمثّل المسيرة الحياتيّة الصّعبة والثّقيلة غير المرضية... فالرّجل قد تعب بسبب حياته وما تبعها من (صرير العجلات) وشعر بالمقت لحياته للمرّة الأولى، وفضّل الاحتفاظ بالقليل الذي يهمّه وهو (المجوهرات) المزيّنة للعربة...
ترك العربة والعالم الواسع المفتوح المرتبط بها، وهَمّ عائدا إلى بيته المتهالك.. المكان الضّيق المغلق، وكأنّه يبغي الإغلاق على نفسه، لكنّ حركته الجسديّة بالتّلفّت ووجيب قلبه وحرصه على ما يحتضنه، كلّ ذلك يوحي بأنّ هناك أمرا ما. وتنتهي الفقرة بحركة الشّخصيّة من البرّاني إلى الجوّانيّ .
بالمقابل هناك شخصيّة أخرى أنثويّة (اعتماد) تظهر في الفقرة الثّانية، وحركتها مغايرة لشخصيّة الرّجل ( الشخصيّة بلا اسم). لقد أخرجت صندوق المجوهرات المزركش والذي يشير إلى زركشة حياتها الموروثة عن الجدّة . وهدفها إخراج زينة تتزيّن بها في حفلة عيد ميلادها التي اعتادتها باذخة... تنادي خادمتها المتّسمة بالخبث فتشير عليها بتغيير القلادة القديمة بأخرى جديدة. ومن خلال الأحداث نرى الحركة عكسيّة من الجوّاني إلى البرّاني.
تُظهر الفقرتان الثّنائيّة الضدّيّة التي اعتُِمدَت في أسلوب الكتابة: رجل وامرأة، مكان مفتوح (السّوق) ومكان مغلق(البيت) ، حركة ضديّة ، ذكر وأنثى ، وفيما الأنثى تحظى باسم، يظلّ الرّجل منكر الاسم. ولكن اختيار الاسم للأنثى جاء موفّقا هنا - ولاحقا سيظهر الاختيار ساخرا - فهي اعتماد التي تعتمد على الآخرين في حياتها ( إرث الجدّة، ومشورة الخادمة) .
هناك حركة أيضا في أسلوب الكتابة، فالكاتب ينقلنا من مشهد لآخر، وكأنّنا أمام عرض شريط سينمائي لبطل وبطلة يتناوبان الأدوار ، إذ تعود المشاهد للرّجل في الفقرة الثّالثة. فقد بدا أكثر اطمئنانا وهدوءا ممّا ظهر في البداية( هدأت أنفاسه وشعر ببعض اطمئنان). بريق المجوهرات بهره وسحره وأثار ابتسامته. وكأنّا بالشّخصيّة قد بدأت تستقرّ أمورها ويأمل الرّجل أن يكون ما بيديه ملكه وحده كي تستقرّ حياته إلى الأبد بعد المعاناة التي مثّلتها حركة الغربة.
في الفقرة الرّابعة، يعود المشهد لاعتماد متذكّرة جدّتها المتقوقعة داخل آرائها، ولا تجاري تطوّرات العصور، حيث ربّتها تربية محافظة. والمحافظة هنا ذات بعد كبير. فالجدّة تمثّل السّلطة المرفوضة بالنّسبة لاعتماد الوريثة لكلّ ما ما تملك، والمتمرّدة على الموروث وصاحبته. الجدّة هي الحفاظ على الحضارة والهويّة والتّراث، واعتماد لا تريد امتدادا لهذه الجذور. فقد رفضت كلّ ما جاءت به الجدّة. ولكن في الواقع الجدّة كانت حريصة على حماية الحفيدة من الأغراب المفسدين لاستمراريتها حين سرّحت الخادمة. فالخادمة تمثّل السّوسة النّاخرة في عصا الفكر والتّراث التي تتوكّأ عليها الجدّة، وتريد أن تجعلها جذع شجرة يورق، لا أن يأكلها السّوس. تمثّل الخادمة الفكر الاستعماري الذي يقدّم لنا وجباته باسم الخدمة.
موت الجدّة الذي رغبته وتمنّته اعتماد يمثّل التّنازل عن موروث وحكمة الأجداد، مقابل التشبّث ببريق زائف يقدَّم لنا ونظنّه مريحا وذا فائدة. فبعد موت الجدّة باعت اعتماد القصر لغرباء- نسلّم ذواتنا وأرضنا وحضارتنا ذات الرّفعة والعلو(القصر) لغرباء يفعلون بها ما يحلو لهم، ونبقى تحت في الحضيض أسفل الوادي نقضي العمر بتفاهات ولهو بعد الانسلاخ عن الأصل.
دخول السّوق وهو العالم الجديد الذي قادتها له الخادمة (العولمة) لم يشعر اعتماد بالضّيق مثلما كان وهي مع جدّتها في الأماكن التي دخلتاها معا .
ويرجع المشهد للرّجل الذي يقلّب القلادة ويذهل لثقلها ودقّة صنعها ... إنّها قلادة من الذّهب ومزيّنة بالزّمرّد والعقيق وتتوسّطها ألماسة كبيرة، ولم يصدّق ما سمع من البائعة اعتماد أو (مودي) – إشارة أخرى للتّنازل عن الأصل – التي ترغب أن تبدّلها ببعض قلائد معروضة على العربة ...
من هذه النّقطة تتضّح رؤية المتلقّي للأحداث أكثر من ذي قبل، فالرّجل إذ ترك عربته، ليس يأسا أو زهدا إنّما طمعا بحياة فارهة جديدة بعدما حصل على كنز ( القلادة) وعاد مرتبكا يتلفّت، وقلبه يخفق حاضنا كنزا! وصاحبة القلادة تملك بدلا منها مصوغات صينيّة لا قيمة لها...
يعرض لنا الكاتب هنا وضعا خطيرا... التّنازل عن الثّمين والمتمثّل باعتماد التي اختير اسمُها مُظهِرا سخرية، إذ لا يُعتمد عليها في حفظ ما يجب أن يحفظ! فلقد بدّلت الهويّة المشرّفة وتنازلت عمّا يمثّلها ممّا بناه الأجداد أو الجدّات ليورثوه للخلف. ولكن هذا الخلَف ركض خَلْفَ التّفاهة وقدّم النّفيس الذي يملكه للأغراب مقابل الباخس، ورضي بالذّليل الذي تلقّاه بدلا من نفائسه. فبائع العربة المنهك تعبًا، السّاكن في بيت متهالك صار صاحب (القصر)، واعتماد ابنة القصر اختارت حياة السّخف وقلّة القيمة تمشي خلف خادمتها ، حتّى إنّها لا توازي في حياتها مشية من هي أقلّ منها !
اختتمت القصّة بمشهد صاحب العربة سابقا وقد ملك الكثير، بل كلّ شيء لندرك أنّ مبنى القصّة كان استرجاعيّا، حيث بدأ بمشهد الرّجل واختتم به. وكيف لا وهو هنا الأهمّ الذي فاز بالكثير وترك اعتماد تعيش بما قدّمه لها مقابل قلادتها النّفيسة.
قصّة مغرقة في رمزيّها الرّائعة، فالأغراب الذين كانوا سائقي عربات أخذوا منّا لجهلنا بقيمة ما نملك، كلّ مثمر وذي قيمة، وأعطونا بالمقابل ما رخص بل وأغدقوا علينا منه ( قرطا وسوارين كهديّة ) . لقد أعطينا الغالي وأخذنا الرّخيص ، تنازلنا عن حضارتنا وأصلنا لنلحق بما يذلّنا وبالزّيف ونقبع خلف مذلّينا ولا نمشي بموازاتهم .
ظلّت الثّنائيّة الضدّية التي بدأت بها القصّة مسيطرة : غنى وفقر، قصور وشاليهات قرب الوادي، علو ورفعة وقلّة شأن، قلادة نفيسة وقلائد رخيصة، قديم وحديث، مجد وذلّ، دهاء وغباء ، سلطة وخضوع وما إلى ذلك ... وكانت النّتيجة قصّة رائعة المضامين والأساليب والحبك.
بوركت أخي الدّكتور سمير العمري
تقديري وتحيّتي