حدَّقَتْ إلى اللا شَيءَ بِعَينينِ ذاهِلَتينِ يُصارِعُ الدَّمعُ كِبْرياءَهُما لِيَنسَكِبَ كِحِمَمِ البراكينِ عَلى سَفْحِ جَبينِها قَبْل أَنْ يَغيبَ في مِخَدَّتِها التي تَحْمِلُ رَأسَها المُثْقَلَ بالأفكارِ والذِّكرَياتِ التي تَزاحَمَتْ على أَبْوابِ النَّفْسِ والرُّوحِ ، ولَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلك الصَّبيبِ لِيَفِيَ بِمَطْلَبِ قَلْبِها المُحْتَقِنِ جَمْرا وصَدْرِها المُحْتَبِسِ قَهْرا فكانت تُفْلِتُ كُلَّ حِينٍ مِنْ حَنْجَرَتِها المَبْحُوحَةِ صَرخَةٌ تَكادُ تُمَزِّقُ أَوْتارَها : لا .. لماذا ؟ .. آهخ .. آه .
تَوالَتْ مَرّاتٍ عَديدَةً أَمامَها مَشاهِدُ الاسْتِبْدادِ والقَهْرِ اللَّذَيْنِ عاشَتْهُما وعانَتْهُما في حَياتِها مُنْذُ فارَقَتْ مُبَكِّرَةً طُفُولَتَها التي لا تَذْكُرُ مِنْها إلّا احْتِضَانَ أُمٍّ باكِيَةٍ شاكِيَةٍ وزَجْرَ أَبٍ عَنيدٍ شَديدٍ ، لِتَذْهَبَ بَعْدَها إلى قَلْعَةٍ مُظْلِمَةٍ مُخيفَةٍ عالِيَةِ الجُدرانِ ضَيِّقَةِ النَّوافذِ قَبَعَتْ في رُكْنٍ مِنْها دَهْرًا تُلَبِّي حاجاتِ سَيِّدِها الذي قَلَّما رَأَتْ منه ابتِسامَةَ رِضىً أو انتَظَرَتْ منه نَظْرَةَ عِرْفانٍ أو حَنانٍ.
لَكِنَّ اللهَ أَذِنَ أَنْ يُشْرِقَ في حَياتِها التَّعِسَةِ بَدْرٌ أَضاءَ لَيْلَها وآنَسَ وَحْشَتَها وزَرَعَ البَسمةَ والأَملَ في وُجودِها البَغيضِ.
كان لِرُوحِها بَلسما ولقَلْبِها بَهْجةً ولنَفْسِها رَاحةً ، ولجُروحِها بُرْءًا .
فاضَ ثَدْياها مع اللَّبَنِ عاطِفَةً مُتَدَفِّقةً زادَتْهُ دُسُومَةً وغِذاءً ، ونَضَحَتْ عَيْناها مع الحُبِّ أَمَلا ورَجاءً سَكَبَتْها في مُقْلَتَيْهِ ، وجَعَلَتْ مِنْ تَرْنيماتِها وهَدْهَداتِها سِكينَةً وطُمَأنينَةً تَناغَمَتْ في أُذُنَيه.
بَدَأَت شَيئا فشَيئا تَتصالحُ مع الحَياةِ وتَنْسى إساءاتِها وتَغْفِرُ لها أَفْعالَها .. وَلِمَ لا ؟ وَقَدْ أصبَحَتْ الحياةُ لها هي، أكثَرَ مِن غَيْرِها ، والسَّعْدُ واتاها والفَرْحُ صاحَبَها في يَومِها وليلِها .
أَصْبَحَ فَوَّازٌ أَهَمَّ شَيْءٍ ، بَلْ كُلَّ شيء في حَياتِها ، طَعامُهُ ، نَظافَتُه ، فَرْحُهُ ، بُكاؤُه ، لَعِبُه ، مَدْرَستُه ، رِضاهُ ، غَضَبُه ... صارَ هُو المِحْوَرَ والأساسَ و .. كُلَّ شيء . ورُغْمَ أنها أنجَبَتْ بَعْدَه بَنينَ وبَناتٍ إلّا أَنَّ أيًّا مِنْهُم لم يَحْظَ بِمِثْلِ نَصيبِهِ مِنْها وحِظْوَتِهِ عِنْدَها ، حتى أبوهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ في نَفْسِها ما كان مِنَ الهَيْبَةِ ، فَلَمْ تَعُدْ تَأْبَهُ كثيرا لِغَضَبِهِ وشِدَّتِهِ وانْقَلَبَ ضَعْفُها أَمامَهُ قُوَّةً وتَحَدِّيا وخُضُوعُها رَدًّا وتَمَرُّدًا أحْيانًا .. إنَّها الآنَ أُمُّ فَوَّاز !
نَشأَ فوازُ فَتِيّا أمامَ عَينَيها اللَّتَين كانتا تُشِعَّانِ فَخْرا كُلَّما وَقَعَتا عَليه أو تَكَلَّمَتْ عَنْهُ وما أكثرَ ما فَعَلَتْ ، كان نَشِيطا مُفْعَمًا بالحياةِ والمَرَحِ ، قَويَّ الجِسْمِ ذَكيًّا ، حَسَنَ الهَيئةِ نَظيفًا أنِيقَ المَلْبَسِ ، بادِيًا عَلَيهِ حُسْنُ الرِّعايةِ والدَّلالِ وأَثَرُ النِّعْمَةِ والثَّراءِ . إلّا أنَّهُ مَعَ ذلكَ كان صَعْبَ المِراسِ عَنيدًا أنانيَّا مَغْرورًا، لكنَّ ذلك لم يَكُنْ لِيُقلِقَها وهُو يتوافَقُ مَعَ مُرادِها لَهُ في التَمَيُّزِ والتَّصَدُّرِ على غَيرِهِ .
رَأَتْ فيهِ امتِدادًا عُضْوِيًّا وزَمَنِيًّا لِذاتِها ، مَشْروعَ حَياتِها الأكبرَ الّذي سَتُعَوِّضُ بِهِ ما فاتَها وتَنْتَصِرُ لِنَفْسِها مِنْ خِلالِهِ ، فكان كُلُّ ما يَبْتَغيهِ مُباحًا ، وكُلُّ ما يَكْرَهُهُ مُحَرَّما . لَمْ يَكُن أحدٌ يجرؤُ على إِزعاجِ شِبْلِ اللَّبُؤَةِ الشَّرِسَةِ ، وَقَدْ أدْرَكَ الطِّفْلُ بِفِطْرَتِهِ وذَكائِهِ مَوْقِعَهُ مِنْ أُمِّهِ وحِمايَتَها الَّتي يَتَمَتَّعُ بها فاستثمرَهُ أبْلَغَ استثمارٍ في الدَّارِ والجِّوارِ وحتى في المَدْرَسةِ التي كان يَهابُ مُدَرِّسُوها مِنَ السَّيِّدَةِ السَّليطَةِ اللِّسانِ .. أُمَّ فَوَّاز.
في شَبابِهِ المُتَفَجِّرِ الصَّاخِبِ أصْبحَ فَوَّازٌ قُرَّةَ عَينِ والِدَتِهِ وأَمَلَها المُتَحَقِّقِ مُتَمَثِّلا أمامَها ، مَوضوعَ أحادِيثِها مع الناس ، مَثارَ فَخْرِها ومَبْعَثَ فَرَحِها ومَحَلَّ اعتِزازِها ومَوْطِنَ أمَلِها المُتَجدِّد.
تَجَلَّتْ ذِرْوَةُ سُرورِها وهِيَ تُقَدِّمُ الحَلوَى والشَّرابَ لِلمُهنِّئين لها ابتِهاجًا بِحُصولِهِ على الشَّهادَةِ الثَّانَوِيَّةِ وتَفَوُّقِهِ فِيها ، نَجاحٌ آخَرَ لها ،لَمْ تَكُنْ تَحْلُمُ أَنْ تُحقِّقَهُ هِيَ ، تَراهُ اليومَ ناجِزًا في بِضْعَةٍ مِنْها .. وَلَدَها .
هَدَأَتْ قَليلًا مَشاعِرُها التي تَعْتَلِجُ في صَدْرِها وهِيَ تَرى صُورَتَهُ الجميلةَ أمامَها بابتِسامَتِهِ السّاحِرَةِ وحُلَّتِهِ الزَّاهِيةِ التي زَيَّنتْ شابًّا يافِعًا يَطِيرُ فَوقَ الأرْضِ حَيَوِيِّةً ومرحًا ، واخْتَلَسَتْ ابتِسامَةٌ راجِفَةٌ لَحْظَةً مِنْ زَمَنِ الاكْتِئابِ الّذِي غَلَّفَ قَلْبَها .
لَكِنَّ السَّعْدَ يَشُوبُهُ دائِمًا القَلقُ والخَوفُ اللّذانِ كانا يُكَدِّرانِ صَفاءَها كُلَّما خَرَجَ ابنُها أو تأخَّرَ في العَوْدَةِ ، وقد بَلَغَ الأمْرُ ذِرْوَتَهُ عِندما سَعَى وألحَّ في الحُصُولِ عَلَى رُخْصَةِ قِيادَةِ السَّيَّارَةِ والتي عَبَثًا حاوَلَتْ إقْناعَهُ بِتأجِيلِها ، ومَنْ يستطيعُ أَنْ يَرْفُضَ طَلَبًا .. لِفَوَّاز ؟
مَعَ كَثْرَةِ خُروجِهِ وأصْحابَهُ وتَكَرُّرِ تَأخُّرِهِ في العَوْدَةِ إلى الدَّارِ ، أصْبَحَتْ أُمُّ فَوّازٍ تَعيشُ في جَحِيمٍ يَومِيٍّ حَقيقِيّ ...
- بِرضَايَ عَلَيكَ يا وَلَدِي لا تَتَأخَّرْ عَنِ الدَّارِ مَرَّةً ثانِية ، أنْتَ تَعْلَمُ أنِّي لا أَقْدِرُ على النَّومِ قَبْل أن أطْمَئِنَّ عَلَيكَ ..
- يا أُمَّ فَوَّاز .. أنَا لَمْ أعُدْ ذلك الطِّفلَ الصَّغيرَ المُدَلَّلَ الذي كان يَنامُ في حِضْنِكِ ، لقد صِرْتُ رَجُلًا ولي حَيَاتي وأصْحابي ، هَلْ تَرَيْنَ مِنَ اللّائِقِ لي أنْ أقُولَ لِأصْحابي عِندَ الثَّامِنةِ أنَّ عَلَيَّ أنْ أذهبَ لِلنَّوم ؟! هَلْ تَقْبَلينَ لابْنِكِ أَنْ يُصْبِحَ أُضْحوكةً بَينَ النّاسِ ؟!
- يا حَبِيبَ أُمِّكَ ، لَمْ أَقُلْ ذَلكَ ولَكِنْ لَيْسَ كُلَّ يَوْمٍ ! ولَيْسَ إلى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ !
- أرْجوكِ أُمِّي هَذِهِ حَياتي فَدَعِيني أعيشُها كَما أُريدُ ، ولا تَقْلقِي فَلَنْ تَأكُلَني الضَّبُعُ ..هههه.
- لَيسَتْ حَياتَكَ وَحْدَكَ فَقَطْ ، هِيَ حَياتِي أيضًا ، أنْتَ ابْنِي ، أغَلَى ما أَمْلِكُ ، ألَا يَهُمُّكَ قَلقِي عَلَيْكَ وخَوْفِي ؟!
- عُدْنَا لأُسْطُوَانَةِ الخَوْفِ والقَلقْ ! قُلْتُ لَكِ .. أنا .. لَسْتُ صَغيرًا ، لَمْ أَعُدْ كَذلِك ، فَدَعِيني أذْهَبُ للنَّوْمِ فأنا مُرْهَقٌ جِدّا !
- آه .. حَسَنًا يا حَبيبي .. نَومَ الهَناء ، هَداكَ الله.
حِوارٌ عَقيمٌ تَكَرَّرَ عَشَراتِ المرَّاتِ ، وكانَ يَزْدادُ حِدَّةً أحْيانا ، حَتَّى اعْتادَتْ أُمُّ فَوَّازٍ الأمرَ واسْتَسْلَمَتْ للتَّغَيُّرِ الذي لَمْ تَمْلِكْ أنْ تَمْنَعَهُ.
ارْتاحَتْ قَليلا لِفِكْرَةِ أَنَّ التَغَيُّرَ كان طَبيعِيًّا وحَتْمِيًّا ورُبَّما لا دَاعِيَ لِأنْ تَلُومَهُ أو تُؤنِّبَ نَفْسَها عَلَيْهِ!
- نَعَم هَذا طَبِيعِيٌّ ، لا يُمْكِنُ إيقافُ الزَّمَنِ .. الكَبيرُ غَيرُ الصَّغيرِ .. ليسَ مِنَ اللّائِقِ أَنْ أُعَامِلَهُ كَطِفْلٍ وَهُوَ رَجُلٌ مُكْتَمِلُ الرُّجولَةِ .. أَلَمْ يكُن هذا أمَلُكِ يا أُمَّ فَوَّاز ؟!
لكن الذِّكرياتِ لم تُمهِلْها ولم تَترُكْ لِتلكَ الوَمْضَةِ المُريحَةِ فُرصَةَ الانْفِرادِ بِعاطِفَةِ الأمِّ المُتَسامِحَةِ الصَّفوحَةِ ، فالتَّبَدُّلُ لم يَقِفْ عند ذلك الحدِّ وما كان له أنْ يَقِفَ مع فوازٍ الذي لم يَعْرِفْ في حياتِهِ شَيئا اسمُهُ القُيودُ أو الحُدودُ التي يُمْكِنُ أنْ تُعيقَهُ ، فَقدْ أصبحَ يغيبُ مُعظمَ النهارِ في الجامعةِ ! ، ثُم يأتي لِيأكُلَ شَيئا ويَستعدَّ للخُروجِ والسَّهرِ والمرحِ مع أصحابِهِ ليلًا ، وبالطَّبعِ مُتَزوِّدًا بما يَزيدُ عن حاجَتهِ مِنَ المالِ الذي ما كانتْ لِتمنعَهُ عَنهُ بأيِّ حالٍ ، ثُم مَصحوبا بالكثيرِ من الأدعِيةِ والرَّجاءِ والتَّوسُلِ أنْ لا يَتأخرَ في العَودةِ إلى الدارِ للدِّراسةِ والرَّاحةِ والنَّومِ مُبَكِّرا وأن يَقودَ بِتَرَوٍّ وأن لا يَصْحَبَ أهْلَ الفِسْقِ والضَّلالِ ، وكان فوازُ يَستَديرُ مُنْصَرِفا وعلى وَجْهِهِ عَلاماتُ الامْتِعاضِ التي أصْبَحَتْ مع الوقتِ تَظهَرُ لها بِوُضوحٍ ويُرافِقُها التَّأفُّفُ مِنْ كَثرةِ تِلكَ التَّوصياتِ الطَّاعِنَةِ في رُجولَتِهِ واسْتقلالِيَّةِ قَرارهِ وفَهْمِهِ لأُمورِ الحياةِ ، وتُعَلِّلُ هِيَ نَفْسَها بِأنَّهُ ليس إلا طَيْشَ الشَّبابِ واستعجالَهُمْ ونَزَقَهُم وقِلَّةَ صَبْرِهِمْ .
حاوَلَتْ كَثيرا أنْ تستعيدَ بِدِقَّةٍ اللَّحْظةَ الفَاصِلَةَ التي مَالَ صَبْرُها عَليْهِ فِيها إلى النَّفادِ ، عَسَى أنْ تَعْثُرَ بِالكلْمَةِ أو الإيمَاءَةِ أو التَّصَرُّفِ الذي أخْرَجَ الأمرَ بينهما عَنِ السَّيْطرة ، عَلَّها تَجِدُ ما تَغْفِرُ لَهُ بِهِ ما صَدَرَ عَنْهُ .
تَأَخُّرُه عن الدار كان يزدادُ باضطراد وربما أَتَى مَعَ الفَجْرِ أو بَعْدَهُ ، ورائِحَةُ السَّجائِرِ تَفوحُ مِنْهُ أكثرَ فأكثرَ ولَمْ يُجَشِّمْ نَفْسَه يوما مَشَقَّةَ الاتِّصالِ بِها لِطَمْأنَتِها .
وذاتَ لَيْلَةٍ كاد القَلَقُ أنْ يَقْتُلَها وهِي تنتظرُهُ وتُسْرعُ إلى النَّافِذَةِ كُلَّما سَمِعَتْ هَديرَ سَيّارةٍ مَارَّةٍ إلى أنْ غَلبها النَّومُ فَلَمْ تَنتبهْ إلّا والشَّمسُ ارتَفَعَتْ قَيْدَ رُمْحٍ ..
لَمْ يَكُنْ فَوّازُ في غُرْفَتِهِ أو في الدَّارِ ..! إنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بَعْدُ . انتابَها رُعْبٌ شِديدٌ واستَوْلَتِ الوَساوِسُ عَلى رأسِها ، وراحَتْ تَتَّصِلُ بِكُلِّ مَنْ تَعْرِفُ مِنْ أصحابِهِ لَكِنَّ أغلبَهُمْ كانوا في دَوامِهِمُ الجَامِعِيِّ أو في أعمالِهِمْ ، وبعضُهم لَمْ يَزَلْ نائِمًا ، لكن أحدًا لم يَرَهُ تِلكَ اللَّيلةَ .
جُنَّ جُنونُ أُمِّ فوازٍ وانطَلَقَتْ مِنْ فَورِها إلى الجامعةِ حَيْثُ أكَّدَ لها مَنْ يَعْرِفُهُ أنَّ فَوازًا لَمْ يَحْضُرْ إلى الجامعةِ منذ أسبوعٍ أو أكثرَ !
كانَتِ الصَّدْمَةُ قاسِيَةً وأُسْقِطَ في يَدِها وأوْشَكَتْ على الانهِيارِ ، وعادَتْ إلى الدَّارِ مُحْبَطَةً تُكَلِّمُ نَفْسَها ..
- تَكْذِبُ على أُمِّكَ يا فَوَّاز ؟!
- أَهذه آخِرُ تَربِيَتي لَك ؟!
- أيْنَ تَذْهَبُ ؟! مَعَ مَنْ ؟!
- لماذا يا فواز ؟! لماذا يا ابن بَطْني لماذا ؟!
يَومٌ طَويلٌ أَكَلَ مِنْ عُمُرها سَنَةً ، عاد في آخرهِ فواز وكأنهُ لم يَغِبْ ساعةً عَن البَيتِ ، لِيَجِدَ ولِأوَّلِ مَرَّةٍ في عُمْرِهِ أمًّا غاضِبَةً مُزَمْجِرةً تَصْرُخُ في وَجْهِهِ مُؤَنِّبَةً مُوَبِّخة !!
كان ذلك مفاجأةً ثقيلةً لَمْ يَعْهَدْها ، وبَدَلَ أنْ يَرْجِعَ إلى الحَقِّ ويَتَمَلَّكَهُ تَأنيبُ الضَّميرِ ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ العِزَّةُ بِالإثْمِ فاستدارَ إلى والدَتِهِ ثائِرًا جائِرًا قاطِبًا مُعَنِّفًا ، يَهُزُّ في وجْهِها سَبَّابَتَهُ..
- إِسْمَعِي ..لَقَدْ سَئِمْتُ مِنْكِ ومِنْ تَدَخُّلِكِ في كُلِّ صَغيرَةٍ وكَبيرةٍ في حَيَاتي !
- قُلْتُ لَكِ ألْفَ مَرَّةٍ ومَرَّة .. إنَّني لم أَعُدْ صَغيرًا !
- لَقَدْ أصْبَحْتُ رَجُلًا ، هَلْ تَعْلَمينَ ما مَعْنَى رَجُل ؟ أنا رَجُلٌ وسأفْعَلُ ما أُريدُ ، ولا أُريدُ مِنْكِ أنْ تُكَلِّميني بَعْدَ اليومِ في مِثل هذه الأمورِ ، أتَفْهمين ؟!
- أنْتِ فقط أُمِّي ولسْتِ وَصِيَّةً على حَيَاتي وقَراري ، هيا جَهِّزي ليَ الطَّعامَ فَأنا أتَضَوَّرُ جُوعًا !
كانَتِ الكَلِماتُ تَقَعُ على قَلْبِها كالمطارِقِ تَسْحَقُهُ سَحْقًا ، أُلْجِمَ مَنْطِقُها ، تَحَطَّمَ في داخِلِها أشياءٌ كثيرةٌ ، جَحَظَتْ عَيْناها وتَجَمَّدَ وَجْهُها وَهِيَ تَنْظُرُ إِليْهِ ..
- نَعَمْ .. لَقَدْ نَما العُودُ إِذَنْ واسْتَوَى واشْتَدَّ وصَلُب.
- كُلُّ ما في الأمرِ إِذَنْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ بَلَغَ تَمامَهُ ..
- لقد صَنَعْتِ يا أُمَّ فَوَّازٍ .. مُسْتَبِدًّا جَدِيدًا