تَأكدَتْ من وَضعِ الأغرَاضِ اللازِمةِ في المِقعدِ الخَلفيِّ ثُمَّ توقفَتْ مرَّةً أُخرَى أمَامَ مِرآةِ البهوِ الخَارجيِّ تُصفِّفُ خصلاتٍ منْ شَعرِها الحَريرِيِّ تَسَاقطَتْ عَلى عينِهَا ، وَتُلقِي نظرةً أخِيرةً على قَوامِهَا المَمشُوقِ وَأَناقَتِهَا البَاذِخةِ قَبلَ أنْ تَنطلقَ خارِجةً بالسَّيارةِ إلى المُتَنَزَّهِ البَحرِيِّ.
كَانتْ جَمِيلةً وإنْ كانتْ ذَاتَ شَغَفٍ بأنْ تُظهِرَ ملامِحَ جَمالِهَا بِكلِّ مُتَاحٍ من مَسَاحيقَ وَأزْيَاءٍ وَعُطورٍ كُلَّما خَرجَتْ من البيتِ خُصوصًا إِلى عَمَلِها كَمُدرِّسةِ رِياضِيَات للمُستَوى الثَّانَوي. وَلَطَالما عَرَّضَها جَمالُهَا الأنِيقُ وَملابِسُهَا الضَّيقَةُ القَصيرةُ لِتَحَرُّشَاتٍ تُغضِبُها وَإنَّما كَانتْ ثِقتُها بِنفسِهَا سلاحَهَا الأقوَى في مُواجَهةِ كلِّ مَا تتعرَّضُ لهُ منْ مُنغِّصَاتٍ.
كَانَ لا بُدَّ أنْ أَشكُرَه بَعدَ مُساندَتِهِ لي كُلَّما تغَيَّبتُ ، وبَعدَ دَعمِهِ لِموقِفِي أَمَامَ مُدرِّسةِ التَّربِيةِ الدِّينيَّةِ تِلكَ. أَتَظُنُّ تِلكَ الحَمْقَاءُ أنَّها أَشْرَفُ مِنِّي وأَعفُّ؟؟ مَا شَأنُهَا بِشَكلِي أَو بِهِندَامِي؟؟ لا أَرتَابُ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا هِيَ غِيرتُهَا مِنِّي خُصوصًا حِينَ تَرَى المُدِيرَ يُرَاعِي أَمْرِي والزُّملاءَ يَستَمعُونَ لِقَولي. مَا ذَنْبِي أَنَا إِذَا كَانَ هُوَ أو غَيرُهُ يَحرِصُ عَلى رِضَاي وَرَاحَتِي؟؟ لِتَذْهَبْ إِلى أولَئكَ المتحرِّشينَ ولأولَئكَ الطُلابِ المُراهِقينَ فتُعلِّمَهم الذَّوقَ والأَدبَ.
أَخذَتْ نفَسًا عمٍيقًا تُحاولُ أن تُهَدِّئَ من ثَورَتِها ، ونَظَرَتْ فِي المِرآةِ تَتأَكَّدُ مِنْ ثَباتِ تَسرِيحَةِ شَعَرِهَا وُكُحلِ عَينَيهَا ، ثُمَّ تَابَعَتْ القِيادَةَ وَالتَفْكِيرَ.
كَانَ الأُستَاذُ عُدَيّ لَهَا بِالمِرصادِ هَذِهِ المَرَّة، فَأوقَفَها عِندَ حَدِّها حِينَ حَاولَتْ إِحرَاجِي في اجتِماع هَيئةِ التَّدرِيسِ. هُوَ زمِيلٌ مُحتَرَمٌ وَأُقدِّرُ له مَوقفَهُ النَّبيلَ هَذَا رَغمَ أنَّهُ حَديثُ التَّعيِينِ فِي المَدْرسَةِ. كَانَتْ فِكرَةً جَيِّدةً أَن دَعوتُهُ اليومَ إلى حَفلِ شِواءٍ بَسيطٍ فَأَشكُرَهُ وَأُبديَ لَه امتِنانِي.
كَانَتِ الشَّمْسُ تنظُرُ لِلأرضِ نظَراتٍ وَاهيةً بَعدَ تَعَبِ يَومٍ قَصيرٍ منْ أيَّامِ الصَّيفِ وَقَدْ أدهَشَتْ فِي الأُفُقِ حُمرةُ الشَّفَقِ نَظرَةَ الوُجُومِ ، وَبَعِيدًا فوقَ مياهِ البحرِ حامَتْ نَوَارسُ فِي سَكِينةٍ عَكْسَ هَمسِ رِيحٍ مَسَائِيةٍ وَادِعةٍ. الهُدُوءُ يَلفُّ المَكانَ خَلا وَشْوشَاتِ المَوجِ للسَّاحِلِ ، وَعُدَيُّ يَجتَهدُ فِي إِشْعَالِ الفَحْمِ لِبدءِ الشِّواء ، وَيَنهرُ قِطًّا أَغرَتْهُ رَائِحَةُ اللَّحْمِ بَيْنَا كَانَتْ سُعَادُ تُجهِّزُ مَكانَ الجلسَةِ غيرَ بعِيدٍ. وَفِي انتِظَارِ أنْ ينْضَجَ الفَحْمُ جَلسَا يَتَحدثَان عمَّا كانَ في المَدرَسةِ قبلَ أنْ يَقْفزَ فجْأةً منِ مَكَانهِ عَلى صَرَخاَتِها الفَزِعَةِ.
كَانَتْ النَّارُ قد امتدَّتْ بِفِعلِ عَصفٍ مُفاجِئٍ للرِّيحِ إلى حيثُ قَارورَةُ الوَقُودِ التِي تَرَكَهَا عُدَيٌّ - سَهوًا - مَفْتُوحةً قرِيبًا منهَا. أَسْرَعَا هُمَا كِلاهُمَا بِبَعضِ الآنِيَةِ نحوَ البحرِ لإطْفَاءِ اللَهَبِ المُتَصاعِدِ ، وَفِيمَا هُمَا يَعُودَانِ لاهِثَينِ تَهاوَتْ إِلى الأَرضِ وَصَرخَتْ مَقهورَةً حينَ رَأتِ القِطَّ وَقَدْ سَرَقَ اللحْمَ مِن الإِناءِ الذِي كَانَتْ فَتَحتْهُ تَجهِيزًا للشِّوَاءِ.
جَلَستْ إلى جِوارِهِ عَلى مقعَدٍ بَعيدٍ في المُتَنَزَّهِ تَمْسحُ دُموعَ خَيبتِهَا وَتُحَاولُ أنْ تَعْتذِرَ لهُ ، يُسَابِقُهَا هُوَ فِي ذَلكَ مُحَاولا التَّخفِيفَ عَنهَا. هَبَّتْ رِيَاحٌ شِمَاليةٌ بارِدةٌ قَطَعتْ صَمْتًا طَالَ بَينَهُمَا تَقُولُ وَهِيَ تَضمُّ يديهَا العَاريتينِ إِلى صَدرِهَا.
- أَشْعُرُ بِالبَرْدِ.
نَظَرَ إِلى شَمْسِ الأَصِيلِ هُنَيهَةً ثُمَّ نَظَرَ إِلى المُصَحَفِ الذَّهَبيِّ المُتَدلِّي قِلادَةً بَينَ نَهْديهَا وَهَمَسَ:
- وَأنَا أشْعُرُ بِالحَرَارَةِ!