النظرة الأولى
أطلَق العِنان لنظراته، فأبصر مكنونات قلبه! رمقها بنظرة حتى اكتوى فؤادُه بنار الهوى، فأسرع بإغلاقِ الشباك الذي يطل على بيت أهلها، ومن تلك النظرة سكنتْ شَغاف قلبه، فقد سحرتْه وأمسى أسيرًا في قفصها المجهول، وبات يستظل الأماني، وجفونُه لا تبارح الشرفة، يتخيلها تحدِّثه ويحدِّثها، و يروي لها قصصاً عن أحلامه، وأهم حلم أن تكون عروساً في بيته!
مرت أيام وهو يفكر في حلٍّ للوصول إلى قلبها عن طريق بيت أهلها، ولكن كيف وهو مُعدِم، لا يملك سوى قلب ضعيف، أفتتن من النظرة الأولى!
وذات ربيعٍ مزهر واجَهَ مخاوفه، و تشجع لقرع باب بيتها، وقف منتصبًا لإبداء الولاء للحسناء، لكن القلب خانه، فنبضاته كانت تتصاعد كلما سمع خُطى والدها الذي كان له بالمرصاد:
_ ابنتي الحسناء، مهرها ملايين، وعليك دفعُها دفعة واحدة!
تقوقع في ذاته ونكّس رأسه قائلا:
_ لا أملِك هذا المبلغَ يا عمي، فراتبي قليل، لكن قلبي جنة من نخيل، زرعتها نبضًا لمن سكنته من أول نظرة!
صاح والد الحسناء:
_ إن لم تكن تملك الملايين الآن، عليك بالتقسيط !
_ لكني لا أستطيع؛ فعليّ ديون أدفعها، وأحْيا على التقشف.
حشرج والد الحسناء وقاطعه قائلاً:
_ إن كنتَ تريد الحسناء، فما عليك سوى التقسيط إلى أن تُنْهِيَه، ثم أسلمك إيَّاها على بساط الريح!
ثم أغلق الباب في وجهه، فردَّد صدى الباب: إن والد حسنائك غيرُ مبالٍ بالأحاسيس الجارفة التي غمرتْك وغرقت في ولعها؛ ولن تصل لشطها إن لم تتسلّح بمجداف الملايين!
عاد لبيته في السطوح، يفكِّر من أين يأتي بالمال، فالتقسيط لن يفيد؛ لأن أجرته يدفع منها تقسيطًا للثلاجة، والتلفاز، وغرفة النوم.... وما تبقّى يدفعه الإيجار، ويقتات على الفتات!
لم يجد أي حلٍّ سوى الصيام، وردد صوت من أحلامه المحلقة نحو الأماني المعلقة: عليك صيام يوم وإفطار آخر - أخذًا بسنة سيدنا داوود- و حين تأتي الحسناء ستفطر على شهد العسل للعمر كله! وما عليك الآن سوى صبرٍ كصبر أيوب إلى تزهر الزهور في غرفتك على السطوح! فبدأ الصيام وصار يحيا على الزهد والتزهد، وحين تشقشق عصافير بطنه طالبةً المعونة قبل المَبِيت، كان يسكتُها بوعود غير قابلة للتنفيذ، إلا في مخيلته الحالمة! فيرتجف جسده ويتضوَّر من الجوع، ويئنُّ متوسلاً الرحمة، لكنه يأبى الخضوع ، ويردد صوتٌ من خياله الجميل: إياك الرضوخَ، فإخضاع النفس للنزوات العابرة، معناه نهاية حلم سكون الحسناء غرفتك في السطوح، بعد أن سكنت قلبك المتعوس!
مرَّت سنوات إلى أن أنهى الصيام وتقسيط العروس، فشعر بالارتياح وأحضر الحسناء وهو يراقص النجوم، ويدندن أهزوجة الظفر على الجوع والتقشف.
لكن العسل لم يَدُمْ سوى أسابيع، فقد تركتْه وعادتْ إلى بيت والدها، فلحقها كعصفورٍ مكلوم يقبِّل الأيادي والرؤوس، ويطلب السماح على مشاعره الجيَّاشة التي أصابتها بالكآبة! فهي لم تتعوَّد على ذاك النوع من الإحساس، ولم تَذُقْ من قبل ذاك النوع من الحياة.
أغلق والدها الباب في وجهه مرة أخرى؛ لأن الحسناء أبتْ مسامحته، والعودة لقفصه النحاسي، فعاد إلى غرفته خائبًا وقد أضناه الشوق، يعانق الأماني ويشدو للآمال المحلقة من شرفته نحو بيت المحبوبة، لكن أمنياته احترقتْ حين رفعتْ عليه دعوى الطلاق.
فمضى إلى المحكمة بخطى متثاقلة، يندب حظَّه، ويذم أحلامه البسيطة، وحين وقف أمام القاضي، استمع إلى كلماتٍ خرجت من فم حسنائه؛ شتّتَتْهُ وفتتت أوصال عشقه، فسأله القاضي إن كان صحيحًا ما تقول، فأقسم بشجرة عائلته أن ما قالتْه افتراء، وهو بريء إلاّ من نظرته الأولى! أمَّا هي فقد استنجدتْ بالقاضي قائلة:
_أرجوكَ أنقذنِي قبل أن يحوِّلني إلى عظام، فإني أنام على الحصير، ولا أجد ما آكل سوى الفول، وقد أصابني شخيره بالطرش، أما رائحة فمه، فكريهة، وآهٍ من عطره الرخيص، كم هو مقزِّز!
سأله القاضي عن رأيه في ما تقوله الحسناء، فتوسَّل وبكى قائلاً:
_سيِّدي، فرشتُ لها قلبي الحريري، وأسكنتُها بين الضلوع في قصرٍ ماسي، وأهديت لها لآلئ من كويرات دمي؛ فماذا تريد أكثر من ذلك؟
قاطع القاضي توسلاته، وأمره بدفع النفقة وأصول الطلاق، فقال منتحبًا:
_ سيِّدي، إن راتبي قليل، فكيف أسدِّد تلك النفقات؟
سكت القاضي قليلاً، ثم أمره قائلاً:
_ادفعها بالتقسيط!
خرج من المحكمة، يتهكم على مصيره ويذم الحبَّ وما يليه من الحب! ويمسح عرقه ودمعةٌ مختنقة تتأجَّج بين أهدابه، ثم سألها خارج قاعة المحكمة:
_لِمَ فعلتِ هذا بي يا حسناء؟
فردَّتْ ساخرة:
_ اكتشفتُ أنك لستَ فارس أحلامي! فلم يكن لي سوى الحيلة، للتخلص من خراقتك!
ثم أدارتْ له ظهرها وغادرتْ، فلملم أحاسيسه المفتتة، وأرقد الولع المكظوم بين ضلوعه، وعاد إلى غرفته في السطوح يجر خيبته، ويفكر في رحلته المقبلة مع الصيام، ويغمغم:
_ الله يلعن النظرة الأولى.