الفضائيات التي تكرّ... ثم تفرّ...ولماذا!!
في يومي 21 و22 من شهر أغسطس آب الجاري تلاقت نخبة كبيرة من علماء العالم العربي والإسلامي في شرم الشيخ بدعوة من سعادة الشيخ صالح كامل لبيان حكم الشريعة الإسلامية فيما سماه رسول الله صلى الله وآله وسلم بالهرج، وما ينعته الغربيون بالإرهاب!..
كانت ندوة متميزة، أبرز ما فيها أنها لم تكن واقعة تحت سياسة معينة أو تأثير دولة ما، أو دائرة على ما تقتضيه مصلحةُ خلفيةٍ ما. ومن أبرز ما فيها أيضاً أنها كشفت عن كل ما يتعلق بهذه المشكلة، مشكلة الهرج، الذي يتنامى في عالمنا الإسلامي...
فمن ذلك، المناخ المجرثم الذي من شأنه أن ينشر وباء هذا الهرج في الأوساط وأن يدفع كثيراً من الناس إلى أن يتصرفوا بأعصابهم بدلاً مما تمليه عليهم عقولهم، فخطط الاحتلال للأوطان والثروات، وتمزيق المبادئ والقيم قائم على قدم وساق...
ومن ذلك تجريم هذا الذي يندفع إليه طائفة من الناس من التقتيل والتهديم بثورة أعصابهم بدلاً من هدي عقولهم... ومن ذلك الكشف عن الأصابع الأجنبية التي لا تنفخ فقط في نيران هذا الهرج، بل تشترك في كثير من أحداثه أيضاً... ومن ذلك التفريق الذي لابدَّ منه بين فريضة المقاومة للعدو الذي جاء يحتل الوطن ويغتصب الثروة والممتلكات وينسف دعائم حضارتنا الإنسانية الإسلامية المثلى، حتى ولو اقتحم المقاوم في سبيل هذا الواجب أسباب الموت والهلاك، وبين جريمة من يمزق وصية رسول الله القائل فيما صح عنه: ((من خرج من أمتي على أمتي، يضرب برّها وفاجرها، لا يتحاشى مؤمنها و لا يفي بذي عهد فيها فليس مني)).. بُحث هذا كله وعولج، ثم انتهى الباحثون إلى قرارات ونتائج لم يتسرب إليها، بحمد الله، أي خلاف.
الأعجوبة التي اقترنت بهذه الندوة، هي أن قناة فضائية واحدة هي التي تابعت وقائعها ونقلت كل ما تم فيها من مناقشات وألقي فيها من كلمات، وهي قناة (إقرأ). أما الفضائيات الأخرى فقد كان موقفها أشبه ما يكون بالمتجاهل أو المقاطع، على الرغم من الدعوات التي وجهت إليها والمعلومات المفصلة التي تلقتها عن محاورها وأهدافها، وعن أهمية الموضوع الذي سيطرح فيها لإبداء الرأي واتخاذ القرار المجدي بشأنه!!..
وأعجب من هذا أن أبرز قناة من هذه الأقنية الفضائية، ظل مراسلوها يحاولون الاتصال بي دون انقطاع لأحدثهم عن رأيي في انفجارات لندن وما أعقبها من الانفجار الذي وقع في أحد فنادق شرم الشيخ، ولكني كنت ولا أزال أتحرج من التواصل مع هذه القناة، فلم يفوزوا مني بأي لقاء.
ولما رأيتُني في وسط جموع العلماء والمفكرين الذين تلاقوا في هذه الندوة، لم أشك في أن هذه الفضائية ستحل بمراسليها محلّ الصدارة بين الفضائيات الأخرى، لتنال بغيتها التي تبحث عنها في تصريحات أفراد العلماء والمفكرين، ولسوف يعثرون عليّ بعد أن حاولوا طويلاً وعز عليهم ذلك. ولكني نظرت خارج الصالة الكبرى التي تتم فيها أعمال المؤتمر، فلم أجد أمامي ولا من حولي إلا الجهاز التصويري لقناة إقرأ!!..
ما هذا الزهد العجيب بعد تلك الملاحقة العجيبة؟!..
أين هي الرغبة المحمومة العجلى للوقوف على رأيي (أو على حكم الإسلام من خلالي) في الحدث الإجرامي الذي وقع في شرم الشيخ والأحداث المماثلة التي وقعت في لندن؟!..
لماذا كانت الرغبة مقبلة وشديدة، عندما كان المأمول أن يأتي الحديث فردياً من شخص مثلي، ثم أصبحت الرغبة مدبرة بل معدومة، عندما أصبح المتحدث في ذلك لسان هذه الأمة الإسلامية كلها؟!..
إن كان الباعث غيرة على حقائق الإسلام الناصعة أن لا تلطخ بالسواد، فإن هذه الغيرة من شأنها أن تبعث على مثل هذا الذي فعله الشيخ صالح كامل، من جمعه ممثلي العالم العربي والإسلامي، واستنطاقهم بحكم الله في هذا الأمر... وإن من شأنها أن تبعث أصحاب هذه الفضائيات على تغطية هذا اللقاء ونشره في أرجاء الدنيا..
وعندئذ لابدَّ أن يتكون تيار قوي شامل يعري الباطل ويكشف الحق ويُبقِي صفحة الإسلام متألقة ناصعة البياض، ويكشف عن البقاع التي يصنَّع فيها ما يسمى (الإرهاب) والبلاد التي يصدَّر إليها، والعملاء الذين يعهد إليهم بتنفيذها.
ولكن الفضائيات العربية بعيدة وغريبة عن هذا الباعث، إنها المهنة القائمة على بواعث يعرفها الحصيف... أما عامة الناس فيوشك أن تتعرى أمامهم الحقائق بعد طول احتجاب وأن يصدق عليهم قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد
محمد سعيد رمضان البوطي