أخذ الهدوء يرتب نفسه وقت السحر في قلب المدينة ؛ حدبة حصى نبتت واستكثرت على رأسي الممتلئ بالضجيج غفوة ساعة , فتململت قليلا , واستندت إلى حائط يصله بأخيه المقابل له شبك حديدي يفصل الحديقة عن الشارع العام , كان رأسي فارغا من كل شيء إلا الضجيج والخوف من الحارس , وقعت عيني على سيجارة بنصف عمر رماها أحد المارة , لكنها كفيلة بسد بعض هذا الفراغ الذي احمله .
تبا ها هو الحارس يتجه صوبي , لا بد وأن اهرب قبل أن يمسك بي , ويفرغ جشعه لطمات على وجهي , قفزت فوق الشبك بسرعة آمرا قدماي بإبعادي حتّى يغدو تسارع خفقان قلبي كصفير جهاز إنعاش أذن بموت طريحه , ولم تمضِ لحظات حتّى وجدت نفسي أمام تلة عالية ليس بعيدة عن قلب المدينة , تعتليها مجموعة أخيلة هي لأشجار تشي بجشع أحدهم , ينام على حرير , ومعلقة من ذهب ترتسم على شفتيه , وآلة حاسبة تتمركز كالنخاع الشوكي في رأسه كل يوم تزداد أرقامها مع ارتفاع قيمة هذه التله , ولو انه أمامي الآن لقبلت يديه , نعم لقبلت يديه , فأنا متعبٌ جدا , وهذه أول أمنية تتحقق في حياتي البائسة كشحوب شجر التين فصل الخريف , لكني ولدت بفصل واحد , لا شتاء لي , لا ربيع يزهر , ولا صيف يثمر .
صعدت إلى قمتها , ورحت أرمق الأشجار بتلذذ لأختار المكان المناسب , وفي رأسي صوت متشمت وقهقهة تغتال فسحة حِباله .. " لن أجوعكَ اليوم أيها النوم .. تبا لك .. سأهزمك واهزم ضجيج المدينة وشمس الظهيرة " , فاخترت أفضلها , وألقيت بنفسي جثة هامدة بصفير قربة , وعينين نصف مغلقتين تترقبان سماء المدينة . فجر يلملم حقائب الليل بكل ما فيه من فرح وحزن , وأحلام وأمنيات .. , حلم شريد يغفو على تل جشع , والشمس خجولة تنتظر رحيله . ترفع ثوبها رويدًا رويدا , تخطو بخطوات قطة . وما إن أدار ظهره حتّى غدت كلبؤة تنشر الفرح في قلب الصياد , والموت سرى في عروق فريسة نائية على تل المدينة .