- مم يتكون الماء ؟
= حارق ومحترق !.
- هل تعرف أحمد زويل ؟
= وهل يطفئ الماء حرائق الصوديوم ؟! .
* * *أثرته تلك الورقة التى يرفعها الصغير بيده بعيداً عن الزحام والناس فى الأتوبيس، وذلك القلق الذى يبدو عليه وجهه وهو يتحدث مع أمه.. استطاع اختراق شغفه للمعرفة فوجده جدول امتحان الصف الثالث الابتدائي .. رغما عنه سقطت شعاع عينيه على قدمه المنهكة بما تحمل من أوراق قديمة يدور متسولا بها ، تتضمن تقدير جيد جداً لبكالوريوس العلوم .. طافت ذاكرته إلى سبعة أفواه فى حجرة بقرية يفاخرون بتفوقه وبلقب دكتور جامعى بعدما حالت ظروفه المادية الالتحاق بكلية الطب .. يحلم براحة والده ومساعدة أخوته فى تعليمهم ، ويتزوج بمن ارتبطت بتفوقه ومستقبله .. متعادل نفسياً لا يميل نحو الأقطاب النفسية حتى عند المؤثرات .. ترتسم على وجهه تلك الابتسامة الهازلة التى يجيدها الفقراء المتفوقون علمياً .. أخفاها حتى تمنحه الثقة التى ما تنفك به أساريرهم .. اختفت تلك الابتسامة نهائياً يوم نتيجة البكالوريوس عندما وجد ترتيبه الثانى لأول مرة بعد ابنة العميد التى تتذيل الترتيب فى السنين السابقة ، وتعديل شروط التعيين بالجامعة لصالحها .. سنوات تفوقه ضاعت بلا طائل لاقتناص فرصة وظيفة الجامعة والمستقبل المامؤل، إلا إن الحظ القواد يحب ألاماكن الملونة ذات الألوان الساطعة والفساتين العارية والرجال الذين يزدادون فحولة عندما أيديهم ما فى جيوبهم من ثروات ، ويحيا منذ ابعد حدود فى الذاكرة تحت مستوى الفقر .. يقطع ذكرياته تصريح فى راديو الأتوبيس عن توافر وظائف وأماكن لكل العائدين من الخليج تضرراً من حرب تحرير العراق !! .. يعقبه مشادة بين المحصل وسيدة ريفية ترفض العشر قروش الورقية كباقى لأجرتها ، وتجادله فى شرعية تداولها بين الناس وتطالب بغيرها معدنية لا تتلف فى كيس نقودها .. حتى تبرع أحد الركاب بتبديلها ، وشرع فى نصحها بصوت منخفض:
- ما تقوليش كده يا حاجة دى فيها قضية امن دولة .
عندئذ يسقط نظره على خبر يزيل الصفحة الأولى من صحيفة المعلم عنتر الأمى .. إلا انه يحرص على شرائها يوميا ويضعها إمامه وهو يرضع الشيشة ، واقتنصها لإعلان الوظيفة الخالية بها :
- فشل المفاوضات بين الحكومة والهاربين بأموال القروض البنكية إلى الخارج ! .
يتوقف سائق الأتوبيس إمام مشهد أسال شفقة كل الركاب متناسين جور توقفه على أنجاز مصالحهم .. احد أفراد قطيع أبو قردان الذى فر من على الأشجار المذبوحة صدمته احد العربات المسرعة ، فسأل دمه على الطريق وتجمع حوله باقى القطيع ينتحبونه .. تلاقت عيونه الشاحبة من زجاج الأتوبيس المغبش بعيون مزدانة عربة فاخرة .. يتمايل ركابها على أحدث الاغانى الشبابية ، بعدما استطلعوا الأمر صاح احدهم فى زميله:
- دوس يا ميدو .. بلا قرف إحنا ناقصين فقر.
يصل الأتوبيس لمحطته ولمحطته حجرة السطوح فى احد عمارات بولاق .. مارا على مشادة بين مقاول ومهندس لاختزال كمية الحديد والأسمنت فى الخرسانة .. لم يلبث إن وأد الصراع مع عودة المهندس متخمة جيوبه ، وإمام مسجدهم يرفض دعوة المصلين المهرولين للحاق بصلاة الظهر جماعة بدلا من كرسى القهوة .. متعللا بان الظهر ليس من تخصصه والذى يبدأ عصراً ، وشرع فى أكمال دور الطاولة .. تشمله الدهشة وتكتمل بمنظر محمد بعد إن أفرج عنه ، بعدما أعلن توبته عن الأفكار الدينية المتطرفة .. حليق الذقن ، يرتدى الجينز وسلسلة والوكمن لا يفارقه .. لا يترك امرأة إلا وغازلها .. بعدما راجع تواريخ صلاحية أفكاره ، والحلم المجهض فى رحم الشعارات .
* * *- ماذا عجل بنهاية عمر أبيك ؟
= الخصخصة .
* * *من خلف مكتبه الفخم – الذى اقتحمه – ونظارته السوداء والتى خلعها حتى يراه .. فلما خبر بمراده وشخصيته حتى حدجه بنظرة متقدة من وجهه العابس ، ولفظه أمره الباتر من رحم غرفته المكيفة الى باب الحياة الذى يأبى إن يفتح له .. وعندما ضاعت طاقة إثارته بالأمل والرغبة فى انتزاع حقه .. غمرته سحابة الاحباطات .. فما عاد عدد كم رئيسى أو حتى فرعى أو ثانوى فى جزئ مادة الحياة ، ولا عنصر نادر فى جدول المتفوقين الذى عامله الحافز وتحصيله فوق المشبع هو التحاقه بسلك التدريس فى الجامعة .. ثمان سنوات مريرة مرت .. فما أقسى إلا يكون لك بداية فى الحياة !!.. مجرد بداية تحول خريج متفوق لكهل نضج على نار اليأس .. متأصل لشخص لا يمت لنفسه وأفكاره القديمة بصلة .. اختزل الأمل فى تفاعلات مستقبله فى معمل الحياة .. فعل يرفع راية العصيان ام يمارس ثورته الصماء فى نواه دائرة فخاخه ، ويتسع المنفى الداخلى ؟ .. وكيف السبيل كى ينتصر على هذا الفقر المتوارث من الأجداد ويعض عليه الأحفاد بالنواجذ ؟
* * *- ما هى علاقتك بالعجوز ؟!
= لا اعرفه قبل هذه اللحظة.
- إذا لماذا قتلته ؟!
* * *يحتاج لاى مورد رزق يقتات به ويدفع منه إيجار غرفته .. كان محل الكشرى أخر الأعمال المهينة لطموحه ودراسته .. المعلم عنتر ساخراً لقبه ( محسن بتاع الكيما ) .. يوكل إليه إعمال المحل المهينة بدلا من يفك الخط .. سوت المسجل دائما عاليا باغنية :
الكيمى كيمى كام.. الكيمى كيمى كم .. غنو للكيميا ياهووه
لا يعبا إن تعلو ضحكته العالية - التى يمقتها – قائلا:
- دا واد مؤهلات غلبان .. مش لاقى اللضى ، وبيصعب علىّ .. أتعمى من كتر القراية وقال إيه الالفا .. واقل صنايعى عندى أحسن منه .. يا ما نصحته يبعد عن إعلانات وظايف الجرايد اللى تعبه صحته .
يستلذ بتدمير قلاع الرضا الزاهد من الأعوام المسروقة من حياته المريرة وترويض ذرات تمرده .. تاق لممارسة الحب سنين – تحسب بالفيمتو ثانية – ولا تخبث رجولته ويصاب بخلل مؤكد.. أحيانا تفسد رغبته فى التسامى على نزع جسده المستثارة .. ارث دينى عميق خلفه ، ترك من اجله العمل بالسياحة .. فلا يقدم الخمور وجسده للئام ، ويتجاهل مشاغلة زوجة صاحب العمارة العجوز منجذبة لشبابه وشعر جسده الكثيف وجسدها العاطش .. المتنافر مع ذكرى رجولة زوجها.
* * *- لماذا قتلت العجوز ؟
= لأجد عند من حرمنى طعامى ونومى .
- هل يعنى حملك السكين معنى الترصد به ؟
* * *كانت ديناميكة اللحظة الأخيرة ما بين التجاذب والتنافر كمن تسلق جبالا من الطاقة لمجابهة قشرة الصدأ المتغلغلة فى أقطار حديد مقاومته المجلفن .. تآكل الحديد وخبث .. تكاثفت الاحباطات فى بناء تصاعدى حتى الكتلة الحرجة .. كسرت كل الروابط فى بنية الإحداث فى تفاعل انشطاري متسلسل لبوليمرات الإحداث المريرة التى مر بها فجعلتها شديدة التعقد وهو يدور فى مدارات حلزونية لاحباطاته .. غاص فى وادى الزحام .. يهرب الناس من منظره الرث كالمجزوم .. تستعبده الخطوات ، يستهلكه الوقت .. يركل كل شئ إمامه معلنا الانتصار عليه .. مل الأمل وانتعال الخيال ، مل حتى اليأس .. مل كل شئ .. هائما لا يستطيع التنبؤ بموضع أقدامه ، ولا حاصل نواتج تفاعلات نفسه الطردية ، وهو يشعر بتجمد إطرافه كهدرجة الزيت حتى وجده بكهولته التى لم تردعه عن صبغ شعره ، فلا يرى لونه المتمم .. يحرك يده بسلسلته الذهبية ، يطارد الشابات بملابسهن الشفافة كقشر العنب .. يدعوهن لشقته الفاخرة، وأشعة الشمس الراحلة تنعكس على رزمة المئات التى وضعها فى جيبه العلوى بشكل لافت للنظر .
لم يدرى لماذا تذكرها ؟ .. ولماذا كان يحملها؟ .. واى عدو يخشاه يحملها له أم خشية المتسكعين والمخمورين الطامعين فى جسده أو فى رجولته والكلاب المسعورة ، وهو ينام على الأرصفة وفى الحدائق ، ويلتحف السماء .. لم يشعر إلا وهى تنغرس فى قلبه ويقف مزهواً بما صنع .. طالبا إن يحملوه إلى كسرة خبز لم يذقها منذ يومين وأربع جدران يلقى فيها جسده بلا خوف أو يزين عنقه حبل الخلاص.