الموت الرحيم
الطيب بنعبيـد
هبت نسائم الصبا مصافحة وريقات الصفصاف الوارفة الضلال ، و هناك على مرمى البصر يتطاير رذاذ الماء حبورا، ليستحم مع ألسنة الشمس الذهبية السابحة على سحنة النهر الرقراق...و في هذا الفضاء الساحر باكر الأيل الوحيد مقتحما مخرج مغارته التي ولجها مند عهد بعيد، يغازل حبات الخرطال و ينشق أريج الزهر الفواح، ويطلق العنان لبصره الذي يراقص عرائس المروج..و بينما هو على هذه الحال الساحرة إذا به يلمح حمامة جريحة تجاهد للتمسك بفرع شجرة يتلاعب به ماء النهر الدافق. و يجرفه تيار الشلال و بلمح البصر. ألقى الأيل بنفسه في النهر رغم أنه لا يحسن السباحة ،فخاطر بحياته متلقفا الحمامة و قد أخذ منه الجهد مأخذا حتى وصل الضفة الناطقة خضرة، فوضع الحمامة في قلبه قبل أن يضعها في مرقد ناعم قرب مروج الخزامى الزاهية.وهو يحنو عليها كما لو أنها من جنسه بل من ولده،
شملت رحمة الله الحمامة و لامستها الألطاف الإلهية ، فاستعادت وعيها،وأضحى الأيل كلفا بها يقضي كل وقته في رعايتها وعلاجها، فبدأت تشفى و الأيل واقف حولها يقيها حر القيظ نهارا و قر البرد ليلا، و كم ليلة واجه الضواري المفترسة التي جذبتها رائحة الحمامة الجريحة و عزمت على افتراسها فوجدت الأيل الضعيف أقوى من العادة ،يصدها و يرد كيد الأعداء في نحورهم، لا هم له سوى حماية الجريحة...توالت الأسابيع فدبت السعادة في نفس الأيل لسلامة الحمامة ، و لكونه وجد مؤنسا صافي القلب، رفيع القدر ،رهيف الإحساس ،يبدد وحدته و يعطي لحياته معنى ، ويبادله الإحساس الرفيع بالحب . دلك الإحساس العظيم الدي زرعه الخالق تعالى في الكون ليشكل لحمة التواصل الإنساني السامي، وجوهر العلاقات الشريفة المثالية بين الكائنات ، وسر السعادة الكامنة التي تقود في النهاية إلى المحب الأعظم مبدع الحب في الوجود ومجازي المحبين المتقين بنعم الجزاء.
بعد مدة غير يسيرة من الألفة ،حل موسم هجرة الطيور فدنت الحمامة من الأيل السعيد لتطفئ نور السعادة المتوهج بذات هذا الصديق الوفي ،و تخبره بعزمها على الرحيل مع أقرانها إلى ما وراء البحر...لم ينبس الأيل ببنت شفة ، بل ترك الصفرة التي علت سحنته فجأة ترد ببلاغة الفصحاء على قرار الحمامة التي لم تنتظر هنيهة حتى فتحت جناحيها و طارت شرقا و الأيل لا يصدق أنها النهاية...
لم يقم من مجلسه ، ولم يذق طعاما ولا شرابا لمدة طويلة ، ولم يعد لمغارته التي إحتلتها الوحوش في غيابه، لم تعد للحياة عنده معنى،ولم يفهم سر هدا التحول المفاجىء في موقف الحمامة فاستكان لصمت قاتل وغبشت حوله سبل الخلاص، ظل على هذه الحال اليائسة فترة من الزمن ليستفيق في صباح مشرق بوقوف الحمامة من جديد عند رأسه وهي تحمل في فمها وردة حمراء و نبتة صفراء ،وبعد التحية الحارة الصادقة قالت للأيل الذي حاول الوقوف على أرجله الواهية من الحزن و الجوع :"لم أستطع التخلي عنك ، و قد وجدت فيك ما لم أجده في غيرك و هذه الوردة عربون محبتي لك ، وبعد تفكيرعسير ، وجدت ما يحل مشكلتنا...إنها هذه النبتة التي ستجد فيها خلاصا لما تعانيه ، و ما أعانيه". إبتسم الأيل وأخد النبتة الصفراء اليابسة من الحمامة فأكلها دون أن يطرح أي سؤال أو استفسار لأن سعادة اللقاء أفحمته بعد هنيهة بدات أوصاله تضعف،ولم يقو على الوقوف .. أحس بشعور غريب بعث السكينة في نفسه ، ثم استلقى على جنبه وهو يجاهد لكي لا يظهر ضعفه أمام الحمامة...أدمعت عينا الحمامة متألمة و هي ترى الأيل يتمدد بوهن و قالت له:
-"لقد وفرت لي العطف و الحماية، ووفرت لك السعادة و الأمل فجمعتنا الصداقة و المحبة و لكن عالمي هو الفضاء الفسيح و عالمك هو الأرض الضيقة، و طينتي ليست من طينتك و يستحيل أن تلتقي عوالمنا ، و في نفس الوقت لا أظن أننا قادران على الإفتراق لما بيننا من رباط المحبة السامي .فلذلك جئتك بهذه النبتة التي ستحملك إلى عالم الملائكة ، فتتخلص من ألم الوحدة والفرقة... سأبكيك أنا بصدق دهرا ،وآمل أن يعلوه النسيان وتصبح ذكرى عزيزة أرويها لأحفادي ، إن عشت أنت ، فلن استطيع أن اعيش انا ، لأنك ستشدني الى الماضي وتحول دون انطلاقي، ."
فنظر إليها الأيل و قد بدأت مسحة ضباب خافت تخفي عنه بياضها الفاتن وقال لها:
-"هو السم إذن...أعظم به من منقذ...يسعدني أن يكون بياضك آخر شيء أراه في الدنيا ،و أشكرك لأنك منحتني السعادة و الأمل لفترة غير يسيرة أعادتني لعهود الصبا ،ورجت مهجتي التي بدأ يعلوها الصدأ ،فدقت طعم السعادة الذي نسيته لزمن حتي أدكيت جذوته...و أقسم أنك لن تجدي من سيحبك كما أحببتك ما حييت ...و حسبي أنني سأموت جسدا و أنت حية في قلبي إلى الأبد ، سأرحل قرير العين لأنك قتلتني بحب و ليس بكراهية، وشتان بين الحالتين، و يكفيني أنك فكرت في خلاصي من معانات آنية قضت مضجعي و أوهنت عظمي ،وهدا السم أهون وأرحم لي من عيش بدون من أحببت...موعدنا الجنة إن شاء الله"
تمدد الأيل على العشب الندي فغادرت آخر أنفاسه وجها بشوشا مبتسما و هو يحاول رؤية الحمامة الحزينة التي بدأت صورتها تختفي شيئا فشيئا حتى غطتها عتمة الموت الرحيم...وقفت الحمامة طوال اليوم تنوح على الفنن المورق تتأمل جثة أيل ملقى على ضفة النهر و الذئاب تنهش لحمه بوحشية و همجية...فهبت رياح الجنوب ملتهبة و محملة بغبار أحمر و طارت الحمامة باكية ، لتلتحق بآخر الطيور المهاجرة و هي تغني مقاطع أغنية كان الأيل يغنيها خصيصا لها عند رأسها كل ليلة قبل خلودها للنوم...
الطيب بنعبيد / مكناس - المغرب