لقد أدت عناية القراء بضبط قراءة النص القرآني و تلاوته تلاوة صحيحة إلى نشأة الدرس الصوتي العربي . فكان نزول القرآن الكريم الدافع الأساس لظهور العلوم عامة و علوم اللغة خاصة ، فبعد نزوله طرح مشكل ضبط مخارج الحروف ، وبدأ التفكير في صون القرآن من التلاوة التي لا تحترم القوانين الصوتية الصحيحة . فاستوجب هذا البحثَ في المجال الصوتي و الاهتمام بعلم الأصـــــــــوات ( la phonetique= phonetics ) .
و سأشيرـ هنا ـ إلى إسهامات العلماء العرب في علم الأصوات ،و إن كانت دراستهم له دراسة وصفية قائمة على الملاحظة الذاتية و التأمل و التجربة فقط نظرا لانعدام الوسائل التي أصبح يستعين بها علم الأصوات الآن كعلم الفيزياء و التشريح و علم وظائف الأعضاء ، هذا بالإضافة إلى تقدم أجهزة الملاحظة و القياس الخاصة بتسجيل الصوت . ولكن رغم اعتماد العرب على وسيلة التأمل و النظر إلا أنهم وضعوا اللبنات الأساسية- نوعا ما - لهذا العلم و اهتموا به بشكل كبير :
أ- فأغلب كتب النحو لاتخلو من إشارات إلى هذا العلم ،فسيبويه الذي عاصر قراء القرآن الكريم نجده في " الكتاب "يصف مخارج الحروف وصفا دقيقا باب عدد الحروف العربية ويبيّن صفاتها ، ويعتبر أن الحروف لا تتبين إلا بالمشافهة.
ب- و اهتم به أصحاب المعاجم كذلك ، فأدرجوه في مقدمات معاجمهم ، فنجد ابن منظور - على سبيل المثال لا الحصر - يورد في مقدمة اللسان معلومات متعلقة بالحروف العربية و صفاتها ، مع تحديد مخرج كل حرف على حدة .
ج- أما علماء القراءات القرآنية ، فقد خصصوا فصولا مطولة في كتبهم لمخارج الحروف وطريقة نطقها نطقا صحيحا لكون معرفة هذا العلم من الأسس المهمة لديهم ، ونمثل لذلك " بالنشر في القراءات العشر" لابن الجزري ، و"الإدغام" للداني ، و "جمال القراء و كمال الإقراء " للسخاوي ، وغيرها من المؤلفات الصوتية .
د- و يعتبر الخليل أول من وضع معجما عربيا على أساس صوتي صِرف حتى إنه سماه " العين" على اعتبار أن حرف العين - عنده - هو أول حرف حلقي . كما سجل له التاريخ أنه واضع الميزان الصرفي المعروف الذي يضبط أوزان الكلمات على الأساس الصوتي الذي بنيت عليه .
ه- وكان السكاكي أول من قام في تاريخ البشرية برسم تشريحي للجهاز الصوتي يبين فيه مخارج الأصوات .
و- بل إن أهمية علم الأصوات عند العرب دعت حتى علماء البلاغة كذلك إلى الاهتمام به حيث تحدث الجاحظ في "البيان و التبيين " عن الصوت و اعتبره الجزء الجوهري من اللغة ، كما أشار إلى بعض الانحرافات الصوتية التي تعيق مستعمل اللغة عن النطق بالحروف نطقا صحيحا كاللثغة مثلا . و أفرد الجرجاني المكون الصوتي بدراسة خاصة في كتابيه "دلائل الإعجاز " و "أسرار البلاغة " وعدَّه ركنا أساسا من أركان النظم إلى جانب المكونات الأخرى : الصرف و التركيب والدلالة و التداول و الأسلوب . هذا بالإضافة إلى بلاغيين آخرين كابن سنان الخفاجي و حازم القرطاجني و غيرهم ممن اعتبروا الدراسة الصوتية مدخلا للدراسة البلاغية .