اشتد النقاش بينهما فاحمرّ وجهه وانتفخت أوداجه ووقفت خمس عشرة شعرة أو تزيد قليلا فوق رأسه على أقدامها من شدة الغضب ، وقف الطفلان مذعورين يرقبان المنظر ،وبعد برهة انفجرا بالبكاء والتصقا بأمهما ،ارتفعت يده في الهواء ثم هوت على خدها لتوقعها على الأرض صائحة باكية حزينة بجانب طفليها! تركهم وانطلق للدولاب يخلع بابه في عنف شديد باحثا عن مال بين طيّات ثيابها فلم يجد شيئا . وأخيرا لاحت له علبة صفراء ، دسها تحت ثيابه وخرج مسرعا . كانت تقبّل أطفالها وتبكي وهما يبكيان لبكائها ، قامت من مكانها متثاقلة لتسقيهما وتسكتهما ، كان الأكبر ذو الخمس سنوات يحاول مسح دموعها بينما رمى الأصغر منهما بنفسه فوق رجليها ثم ناما من الخوف وبعد نصف ساعة مسحت خطوط دموعها وقامت من الردهة مخلفة تحتها بركة من الدموع، لتجد ثيابها مبعثرة تحت أقدام الدولاب وشهقت لهول ما اكتشفته لتسبح في نهر جديد من الدموع.
وصل إلى سوق القات متأخرا قليلا ووقف أمام بائع القات وقوف الواثقين قائلا : اليوم أريد أغلى أنواع القات ورمى بالعلبة الصفراء تحت قدم البائع الجالس كالشيطان فوق طاولته ! ابتسم الشيطان وهو يفتح العلبة ثم وضعها تحت رجله وأخرج حزمة طويلة وهو يقول :هذه من نصيبك خبأتها لسيّد لم يأت اليوم ! ولكن قل لي هل ترهن هذا الذهب أو تبيعه لي ؟ قال : أرهنه . ذهبا معا لصائغ يقدّر قيمة الذهب وكتبا ورقة بينهما ، كانت قيمة الذهب تغطي ثلثي الدين الذي عليه للبائع . قال للبائع :أقرضني بضعة آلاف أيضا . فأعطاه عشرة آلاف من جيبه ومضى كل منهما في سبيله .
في مقيل القات جلس كالطاؤوس منتفشا يقلب القات في فمه كالبهيمة ويثير موضوعا للنقاش : يقولون أن الدحابيش لصوص ؟؟ واليوم اليوم رهنت ذهبا عند بائع القات فما تركني حتى ذهبنا للصائغ وحدد ما لي و ما له بكل أمانة !! رد عليه صاحبه :عندما تنقضي مصلحته منك تماما سيقوم بقتلك ونهبك . استمر النقاش طويلا وتشعب إلى كل المواضيع من الاقتصاد والسياسة حتى المجاري الطافحة في الشارع . بعد منتصف الليل انفضّ السمر . ودّع أحبابه وانطلق للبيت يتخلص في الطريق مما علق في فمه من القات في الشارع هنا وهناك ! فتح باب بيته ودلف بهدوء فلم يجد زوجه وأطفاله في غرفتهما ، برغم توقعه ذلك لكنه بحث في أرجاء المنزل دون جدوى متمنيا أنها غيّرت غرفتهما فقط .
ألقى بجسده المنهك فوق السرير وغط في نوم عميق حتى الحادية عشرة صباحا ،في اليوم التالي قال له والد زوجته بوضوح إذا أردت زوجتك وأطفالك فأعد الذهب أولا ثم نتناقش ، مرّ شهر كامل دون أن يحرك ساكنا في الموضوع ، أصبح البيت مكبا لنفاياته ومكانا لمقيله وأصحابه ، على الأقل أصبحوا يحضرون وجبات العشاء كل ليلة معهم والغداء أحيانا. ولكنه كان يتقلّب في جمر الأسى والحزن والقهر والجوع ؟؟؟.. في محل زميله لبيع الملابس النسائية وقف يلتهم بعينيه أرداف النساء وصدورهن حتى قال له صديقه :ألم تشاهد امرأة من قبل ؟؟ وضع عينيه في الأرض خجلا وخرج دون أن يرد بحرف واحد! في ذات المساء قال لأصحابه لا تأتوا هنا غدا . قال أحدهم دون تأخير لابأس المقيل عندي غدا ، تفضلوا جميعا ولم يردف أحد حرفا آخر في الموضوع .
في الصباح نهض باكرا وأخذ يقمّ المنزل ،ثم اغتسل وتبادل مع المرآة بعض النظرات وخرج بسيارته إلى بائع القات ، هل تريد المال ؟ ... نعم .... انظر أتريد شراءها فأنت أولى بها ! بعد أخذ ورد وافق الرجل على شراء السيارة ، تحاسبا سريعا فأعطاه البائع رهنه ولم يكن المبلغ المقبوض كبيرا إذ خرج نصفه أو يزيد قليلا في قضاء دينه . ووضع هو شرطا واحدا أن يستخدم السيارة حتى نهاية يومه .
اشترى علبة من الشوكولاته الفاخرة وذهب إلى بيت عمه مباشرة قبل الظهر ، كان الطفلان يلعبان في الشارع ، فاحتضنا أباهما ببراءة ولهفة جلس على أطراف قدمه يقبلهما ويضمهما ثم أعطاهما علبة الشوكولاته فأخذاها إلى أمهما بفرح .استقبله عمه بوجه متجهم وقال تفضّل ، بعد بضع دقائق وضع علبة الذهب أمام ناظري عمه ، نادى الرجل على ابنته فدخلت مصافحةً زوجها وبعد السؤال عن الصحة قال لها أبوها تأكدي من حقك يا ابنتي ؟ فتحت العلبة لم يختف منها شيء مما وضعته فيها من قبل .قال له عمه بعد خروجها: تستطيع الذهاب الآن ... كيف أذهب ،أريد زوجتي ؟؟ ...... عندما تعود رجلا كما كنت أردها لك ! ......والله لولا أنك في مقام أبي لكان ردي غير الكلام ... اشتد النقاش بينهما وطال كثيرا وضع الأب شروطا جديدة .الصلاة ، العمل ، الطعام والشراب للزوجة والأطفال ، والشرط المعجز ترك القات وشلة القات .حاول أن يخرج بنصف اتفاق مدعيا أن حياته الشخصية ملك له وحده ، رافضا الخروج من البيت إلا بيد زوجه وأطفاله . وبعد ساعة حضر إخوتها ، قال له كبيرهم إن لم تخرج بهدوء سنخرجك مكسور الأطراف من هنا ، كانت شرارات عيني صهره تحطم كبرياءه وتبعث الرعب في نفسه وهو ينظر إلى جسده الضخم ووجهه المكفهر الغاضب وعضلاته المفتولة ، ويرى الصدق في تهديداته. وقف عمه عند عتبة باب الغرفة وهو يخشى من عودة الطفلين فيريان أباهما في حالة مهينة إن اشتد النزاع بينهم وبينه لأكثر من الكلمات.
كان يداري دموعه وهو يتذكر هذا الشاب حين تقدم لخطبة ابنته قبل عشر سنوات ، كان مهذبا وسيما ،خلوقا ، محافظا على صلاته يعمل في شركة نفط وحاله ميسور .لم يكن يعرف من البلايا إلا التدخين . يتذكره حين بنى بيته بشق الأنفس واشترى سيارته ببعض الدين قبل أن تحل المصيبة عليه برفقاء السوء والشجرة الملعونة في اليمن حتى طرد من العمل. أما زوجته فلم تكف عن البكاء في الغرفة الثانية ، قال لها أبوها قبل مجيئ زوجها :إن أحضر الذهب فعلينا أن نحاول إصلاحه ، زوجك رجل طيب وفيه بذرة خير وعلينا المحاولة ولكن عليك بالصبر .
خرج من بيت عمه وهو يقول: زوجتي ولا يحق لأحد منعها مني وهناك قانون في البلد ! وانطلق كالمجنون بالسيارة يملؤه القهر والعجز والغضب . وفي الطريق سمع أذان الظهر فتوقف عند باب المسجد وخرج من السيارة ينتفض بدنه من البرد وهو في عز الظهر . توضأ وصلى ولم يتوقف عن البكاء منذ تكبيرة الاحرام حتى السلام ، بعد الصلاة جلس في مصلاه يدعو ويدعو باكيا منيبا حتى لم يبق في المسجد أحد سواه . عاد إلى بيت عمه مرة أخرى . استقبله عمه وحين أراد صهره أن يتحدث أشار له أبوه بالكف عن الحديث . قال : عزمت نفسي للغداء عندكم فهل تردّون ضيفا ؟؟؟؟. لاحظ عمه بسهولة حشرجة صوته وتغيّر وجهه فاحتضنه بقوة وأجهش كل منهما بالبكاء ، قال عمه وهما يبكيان أهلا بعودتك بني تقبّل الله توبتك وغفر لك ورضي عنك ! لتنهمر عيون صهره بالدموع .