الليلة الثانية بعد الألف ..
في آخر أسفاري ، اعتليت صهوة سفينتي ، وقبل انبلاج الفجر ، خضت عباب البحر ، فساقتني الأمواج العاتية ، وسط الأعاصير الهائجة ، إلى جزيرة من أعجب ما رأيت ، وأغرب ما سمعت ..
جزيرة تحمل من كل متناقض لوناً ، وتُظهر كل لحظة وجهاً ، تتكلم فلا تفقه منها شيئاً ، وتصمت فلا تزداد إلا جهلاً ، تغنّي بألف لحن ولحن ، ألحان ذات شجن ، تخدر العقول ، وتبعث في النفس الخمول ..
أنا السندباد .. وهذه حكايتي لليلة الثانية بعد الألف ..
كنت أرسو في شاطئ ، فتتقاذف إليّ التجار والبحارة من كل حدب وصوب ، يطمعون في تجارتي ، ويصغون إلى غرائبي ..
أما هذه الجزيرة فشأنها مختلف ، وشملها غير مؤتلف ..
استقبلنا الخواء ، فلا أرض تبدو ولا سماء ، فتشاءم الرفاق ، وأشاروا بمغادرتها والفراق ، فذكّرتهم بالبطولات والأيام الخوالي ، في الوديان والبحار والجبال والفيافي ، فاستعادوا بأسهم ، وشحذوا همتهم ، فتوكلنا على الله ، وأنزلنا المرساة ..
توغلنا داخل الجزيرة ، غابات كئيبة ، ومناظر موحشة .. وأخرى لا تدري ، أتضحك منها أم تبكي ؟
فئران تلتهم أسوداً .. دجاجة تنهش بمخالبها صقوراً .. ديدان تناطح الجبال .. ملوك تلبس الأسمال ..
ذئاب مجتمعة ، يتوافقون حيناً ، ويمضغون لحوم بعض أحياناً أخرى ..
حمار بليد يمشي الهوينا على ثلاثة ، تقود قافلة من قسورة ، يزأرون لنعيقه ، ويسيرون على خطته .. أو ربما هكذا بدا لي .. لا ادري ..
ضباع سحم الوجوه ، الغدر فيهم طبيعة ، والمكر لهم طريقة ، يترصدون كل جميل فيقتلعوه ، وكل خير فيدفنوه ..
قوارير ناصعة ، كأنها الربيع في بهائها وزينتها ، تشوهها أيادي غول قبيحة ، يمتصون منها الرحيق ، ثم يرمونها ذابلة محطمة على قارعة الطريق ..
ناس حفاة عراة جوعى ، تمر قدّامهم ما لذّ وطاب ، فلا يرجعون منه إلا بحفنات تسد الرمق وتستر العورة .. أو يكاد ..
فلاح معه بذور صالحة وفاسدة ، يزرع الفاسدة ويترك الجيدة ، فإذا جاء وقت الحصاد ورأى سوء وقبح صنيعه ، لم يعتبر وعاد إلى سيرته ..
ناس حسن الوجوه جميلها ، فإذا اقتربت أصابتك نارها ولظاها ..
كل شيء هنا مختلف ، وشمل هذه الجزيرة غير مؤتلف ..
فهالني ما رأيت .. وهزني ما سمعت ..
فوليت فراراً لا آلو على شيء ولا أعقب ، النجاة النجاة .. أمرت برفع المرساة ، والخوض في البحار المجهولة ، فلا طائر الرخ بات في ناظري مهولاً ، ولا وادي الثعابين يخيفني ، ولا الغول يرعبني ..
والبحر بكل ما فيه من مخاطر وخواطر ، بات قريباً مني ، صديقاً لي .. فماؤه ماء ، وسماؤه سماء ..
وصرت أصيح :
أنت يا بحر أحبك أنت .. كما أنت .. وهذا يكفيني منك ..
أنا السندباد ..
ما عاد لي حكاية منذ الليلة الثانية بعد الألف ..