استيقظ مذعورا على دوي شديد، قفز من السرير عاريا، لا يستره سوى مئزر خفيف، لم يحس بالدرجات التي كان يحسب لها ألف حساب صعودا كي لا يهبط تحت أي ظرف كان، استقر في آخر دور، وكان كلما بني دور تسلل إليه، يشتغل من برجه، كما يحلو له أن يسميه، لديه كل الأدوات التي تغنيه عن النزول... ولكن اليوم ولأول مرة لا يشغله شيء ... حتى فكرة التدافع نحو الخارج لم تستوقفه لحظة واحدة، كان يقفز الدرجات ثلاثا ورباعى وكاد يسقط مرات، نسي وقاره الذي كان يستغرقه التفكير في تجلياته وتطبيقاتها، نسي الشعيرات البيضاء التي كان يتحداها قائلا بأنها لن تثنيه عن عزمه في التجسس على جنس البشر وامتصاص دمائهم، نسي كل العورات التي حاول جاهدا إخفاءها كي لا تنكشف أمام أحد، احتضنه الهواء البارد في الخارج، أحس بسكاكينه الخفيفة على جميع أجزاء جسده المترهل وهو منطلق نحو لا مكان ... تحمل لسعات البرد الشديدة وذهنه عاطل عن العمل... انتبه على صوت جارته الحسناء: لقد أخذت كل ما خفي وزنه وغلا ثمنه.. إلى أي مكان .. المهم أن تسرع قبل أن.... آه أراك قادمة نحوك.
أدرك أنه لا جدوى من الانطلاق نحو الخارج إن نسي أشياءه بالداخل... تسمر في مكانه عندما انتبه إلى حاله: ليس وقت نقد الذات، كل واحد كيقول يا راسي... تعقل أيها الشيخ الماكر، لقد أصبحت وحيدا وعاريا، فمن سيقلّك معه ... تبا لهم ولمدافعهم العشوائية....
فوضى عارمة في الشارع سيارات تصطدم ببعضها وأناس تجري أو تهرول ... ورائحة الرصاص تقتحم رئته بلا رحمة ...: هل هذا ما زرعته؟ أبدا لن ينقلبوا ضدي فقد روضتهم... يا له من صباح منحوس، قفز فوق الرصيف تجنبا للاصطدام بدراجة هوائية مرت بسرعة فائقة، شتم بصوت عال ولم يرتد إليه أي صدى لصوته: أنا من كان صوته يرج المكان، أصبحت ألهث خلف. آخ، صحيح ماذا أريد وإلى أين أنا ذاهب، من سيرضى بلم شتاتي دون شماتة، سيكثر الشامتون، ملعون هذا اليوم .. يبدو أنه لا أمل لي فوق الأرض .. بل في أي فوق، لن تمتد يد لتستر عورتي، وجسدي العاري مشاع تلعب به ألسنة الرياح كما سيكون لقمة سائغة لشهب الرشاشات القادمة....
سأستقل المجاري... لن تكون هذه نهايتي.. لن أترككم تنتصرون عليّ أيها الأوغاد...
- استر نفسك أيها الشيخ، لا حول ولا قوة إلا بالله.... الله يجعل عقايبنا خير..
- ماذا تقول؟ هل تعرف مع من تتكلم؟ اصعد واجلب لي مفاتيح سيارتي وطائرتي الخاصة وسأحملك معي ...
- السيد طار ليه الفريخ، الله يستر.... قال البقال لبواب العمارة. اتصل بأحد أصدقائه أو أقربائه...
- لم أعرف له صديقا أو قريبا... يا لطيف، حتى السلام عليكم ما كانش كيقولها.
رمى عليه صاحب الحانوت قميصا فتلقفه بسرعة، وطلب منه سروالا على مقاسه، فضحك الحانوتي وقال:
- هبيل وحاضي حوايجو. البس أسيدنا إلا بغيتي اتّستر.
انطلق يجري من جديد، وحيدا وعاريا وتائها، تلاحقه المدافع وحده، يلعن هؤلاء الذين لم يفهموا أوامره، فقد اتفق معهم أن يخنقوا أبا عبد الله ليلا ويضعوه في متجره ويحرقوا السوق عن آخره.
ما بال هؤلاء الأغبياء حتى أبسط الأمور لا يتقنونها. لماذا يطلقون علي المدافع، أنا من يعطي الأوامر هنا فويل لهم مني عندما أصل إلى المركز.
رأى بالوعة كبيرة تضحك له بإغراء تفتح ذراعيها له بغنج ودلال، توجه إليها منتشيا، وهو يفكر في تلك الحسناء القادمة إليه، فتحت فاها وابتلعته، ضحك بانتصار: لقد وجدت طريقي أخيرا، سأريهم من هو الشيخ الصويري، سيندمون على اليوم الذي ولدوا فيه...
اصطفت الضفادع لنصرته، سارت خلفه إلى المعركة المنشودة نقيقها يصم الآذان، كان قائدها العملاق الذي سوّد الوحل كل جسمه، وجرده من الملابس التي ستر بها ولكن مقاسها لم يلائمه، فهي خاصة بأصحاب السواعد المفتولة من شدة العمل...
جرفه ماء المواسر الملوث مع ضفادعه نحو المجهول وهو يقود كتيبته الوهمية إلى معركة في الظلام، يبحث عن شيء غامض، تعيده بعض الإشراقات إلى المدافع والحرب الدائرة في الخارج بينما أنصاره قاعدون يقتاتون من الطحالب.
في الخارج الذي غادره كانت الحياة تسير نحو الانفراج، فقد كانت جنازة أبي عبد الله بداية جديدة للأسرة حيث عاد عبد الله واستلم المشعل بعد أن التفّ حوله الأقارب والأصدقاء.
لم ينشغل أحد بما قاله الراوي حول مصير الشيخ الصويري؛ إذ حدث فقال: كان يأكل الديدان والطحالب، ويضحك مع الضفادع عندما افترسه تمساح وقيل ثعبان ضخم وبلعه دفعة واحدة قبل يختفي في المواسير ليظهر في الطرف الآخر من المدينة، ويبصقه في ناطحة سحاب شيدت حديثا......