عندما قرأت هذا الحديث في صحيح البخاري كانت لغته غريبة علي، وعندما استمعت إلى شرحه لم أجد أنه أزال كل ما في الحديث من غرابة؛ لذا فقد سعدت كل السعادة عندما وجدت هذا النص في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير- الجزء الثاني - ص40: 41 - المكتبة الإسلامية.
وجدت أنه شرح الحديث شرحا قرب المعنى وأبان إبانة جيدة لم أسمعها في الشرح المسموع.
ووجدت أنها مثال طيب للاستعارة التمثيلية في الحديث الشريف، فقررت إيراده إفادة لغوية وبلاغية. فجزى الله تعالى ابن الأثير خيرا، ورحمه رحمة واسعة!
( خَضَرَ ) ( هـ ) فِيهِ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ ، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ .
وَإِنَّمَا هَذَا الْمَالُ خَضِرٌ حُلْوٌ ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ هَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحِ أَلْفَاظِهِ مُجْتَمِعَةً ، فَإِنَّهُ إِذَا فُرِّقَ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ الْغَرَضُ مِنْهُ .
الْحَبَطُ بِالتَّحْرِيكِ : الْهَلَاكُ . يُقَالُ : حَبِطَ يَحْبَطُ حَبْطًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَاءِ . وَيُلِمُّ : يَقْرُبُ . أَيْ يَدْنُو مِنَ الْهَلَاكِ . وَالْخَضِرُ بِكَسْرِ الضَّادِ : نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ . لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا . وَثَلَطَ الْبَعِيرُ يَثْلِطُ : إِذَا أَلْقَى رَجِيِعَهُ سَهْلًا رَقِيقًا . ضَرَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَثَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَالْمَنْعِ مِنْ حَقِّهَا ، وَالْآخَرُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي أَخْذِهَا وَالنَّفْعِ بِهَا . فَقَوْلُهُ : إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ ، فَإِنَّهُ مَثَلٌ لُلْمُفْرِطِ الَّذِي يَأْخُذُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْبُقُولِ فَتَسْتَكْثِرُ الْمَاشِيَةُ مِنْهُ لِاسْتِطَابَتِهَا إِيَّاهُ ، حَتَّى تَنْتَفِخَ بُطُونُهَا عِنْدَ مُجَاوَزَتِهَا حَدَّ الِاحْتِمَالِ ، فَتَنْشَقُّ أَمْعَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَتَهْلِكُ أَوْ تُقَارِبُ الْهَلَاكَ . وَكَذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا وَيَمْنَعُهَا مُسْتَحِقَّهَا قَدْ تَعَرَّضَ لِلْهَلَاكِ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ النَّارِ ، وَفِي الدُّنْيَا بِأَذَى النَّاسِ لَهُ وَحَسَدِهِمْ إِيَّاهُ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ ، فَإِنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُقْتَصِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ وَجَيِّدِهَا الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ بِتَوَالِي أَمْطَارِهِ فَتَحْسُنُ وَتَنْعُمُ ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَيْجِ الْبُقُولِ وَيُبْسِهَا حَيْثُ لَا تَجِدُ سِوَاهَا ، وَتُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الْجَنَبَةَ ، فَلَا تَرَى الْمَاشِيَةَ تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا تَسْتَمْرِئُهَا . فَضَرَبَ آكِلَةَ الْخَضِرِ مِنَ الْمَوَاشِي مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا ، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا ، فَهُوَ بِنَجْوَةٍ مِنْ وَبَالِهَا ، كَمَا نَجَتْ آكِلَةُ الْخَضِرِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ : أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ، أَرَادَ أَنَّهَا إِذَا شَبِعَتْ مِنْهَا بَرَكَتْ مُسْتَقْبِلَةً عَيْنَ الشَّمْسِ تَسْتَمْرِئُ بِذَلِكَ مَا أَكَلَتْ ، وَتَجْتَرُّ وَتَثْلِطُ ، فَإِذَا ثَلَطَتْ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا الْحَبَطُ . وَإِنَّمَا تَحْبَطُ الْمَاشِيَةُ لِأَنَّهَا تَمْتَلِئُ بُطُونُهَا وَلَا تَثْلِطُ وَلَا تَبُوُلُ ، فَتَنْتَفِخُ أَجْوَافُهَا ، فَيَعْرِضُ لَهَا الْمَرَضُ فَتَهْلِكُ . وَأَرَادَ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا ، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ نَمَاءَهَا وَمَا يَخْرُجُ مِنْ نَبَاتِهَا .
2- ( هـ ) وَفِيهِ إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي مَنْبِتِ السُّوءِ ، ضَرَبَ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَنْبُتُ فِي الْمَزْبَلَةِ فَتَجِيءُ خَضِرَةً نَاعِمَةً نَاضِرَةً ، وَمَنْبِتُهَا خَبِيثٌ قَذِرٌ مَثَلًا لِلْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ الْوَجْهِ اللَّئِيمَةِ الْمَنْصِبِ .