ذكرى معطرة
جلستْ في الحديقة تنظر إلى الأزهار المُنقَّحة، وصارت تتساءل في نفسها: "أيتذكَّر الذكرى أم ينساها مثل كلِّ مرة؟ وإن لم يتذكَّرها، فما عساي أفعل مع ذاكرته المُتموِّجة مع الفصول؟!"
لَمْلَمت مُخيِّلتها في سكون وهي تنظر للزهور الجميلة، لكن الأفكار الخفيَّة هاجَمتها، وردَّد صوت داخلها: "لِمَ لا تُلمِّحين له؟ فقد يتذكَّر، ولكن كيف؟ فالفواتير لا تُفارق مكتبه، والأعمال تتراكم عليه يومًا بعد يوم، والأرقام تتشابَك داخل ذاكرته كخيوط العنكبوت، لا يعرف كيف يحلُّها إلا بمساعدتي، وإن نسِي ذكرى عُمرنا، فلن أتفاجَأ!"
أخذَتْ أنفاسًا من ماضي شَغفها، وتنهَّدت:
_آه لو نسِي الذكرى! وآه على تلك الفواتير! لقد استولَت على ذاكرته، وتَنجرف كلَّ يوم تحت رُكام شاببه، بعد أن ارتسَمت خُصلات الشَّيب خريفًا فوق رأسه!
وإذ بها تُفكِّر، شعَرت بيده تُربِّت على كتِفها، نظَرت إليه مبتسمة، وقالت:
_ كنت أفكِّر في أمرٍ يخصُّنا!
فردَّ مازحًا:
_أخاف من الأفكار التي تخصُّنا!
ضحكت مجامِلةً إيَّاه، ثم عقَّبت صامتةً تُراقص خواطرها، اقترَب منها، ثم جلس على كرسيٍّ بجوارها، مال إلى الوراء مستقيمًا في جلسته، فإذا بالأزهار المختلفة تحاصر عيونه، ابتسَم وصار يترقَّبها في هدوء، فمالت على كتفه وأمسَكت يده، وتطلَّعت إلى زهرة الياسمين، التي تَتبخْتَر بين أنواع الزهور المُخَضَّبة، أحسَّت بأنها تُجانسها، فصارت تَرقُبها وهي تتمايَل مع النسائم، تَرتعش أوراقها، وترجُف أشواكها في رونق متَّجَلٍّ، وتَزهو بأهازيجَ مُعطَّرةٍ بأريج مُفعَم رِقَّةً، هبَّت أَهْوِية شرقيَّة خفيفة، فأوصَلت شذا الرحيق أنفاسها، استنشَقت العبير الذي لفَّ وجنتَيها وداعَب صدرها، فقالت له متسائلة بسكينة:
_أمَا زالت زهرتك تفوح عطرًا؟
_كما عهِدتها، لقد تعوَّدت عِطرها.
_أما زال عطرُها يفوح، أم ذَبُلت مع الخريف؟!
نظر إليها بنظرة متفحِّصة، واستغرَب من سؤالها وردَّ بسؤال:
_إلى أين تريدين الوصول عزيزتي؟!
تَمْتمَتْ تَمتماتٍ وصمَتت، ثم قالت في نفسها: "لن يَفهمَني مهما لَمَّحت له، لن يتذكَّر ذكرى عُمرنا هذه السنة، آه على الفواتير اللعينة!"
أمسَك كفَّها بين يديه، وأخرجها من أُنقوعة أفكارها قائلاً:
_لا يهم لو ذَبُلت كلُّ زهور الحديقة، ما دامت زهرتي تَفوح عطرًا كلَّ يوم، وتُتَمتِم من حينٍ لآخر، فسِحرُها يَكمُن في تَمتمات أَجْهَلُ سرَّها!
تعمَّدتْ تجاهُل كلماته بابتسامة عريضة، أضاءت ملامح وجْهها الجميل، فأطلَق ضحكة خفيفة، وطوَّقها بذراعه في حُنوٍّ، أخَذت نفَسًا بطيئًا، ثم قالت:
_آه يا عزيزي، لو تعلم ما أصاب زهور حيِّنا! أما زهرتُنا، فما زالت تُشِع رونقًا، وتعطِّر حياتنا كلَّ يوم، رغم مرور سنين على زراعتها!
رمقها بنظرة غامضة، ثم قال:
_عزيزتي، لا أدري ما يجول في مُخيِّلتك، لكني أحفَظ ترانيمك، وأشعر أن هناك شيئًا ما يقضُّ مَضجعك، وتوَدَّين مني معرفته، لكني لا أُتقن فنَّ الألغاز، فقولي ما لديك.
داعبَت بأناملها خُصلات شعرها المتدلِّية حول رقبتها، وهمسَت له والابتسامة لا تُفارق ثَغرها:
_عزيزي، إن زهرتك في حاجة لإرواء مختلِفٍ عن كلِّ مرة، تتوقَّع منك ما وعَدتها.
قاطَعها قائلاً:
_فهِمت عزيزتي.
انشرَح صدرها، فأمسَكته من ذراعه بكِلتا يديها، وقالت والفرحة لا تكاد تَسَعها:
_ماذا فهِمت يا عزيزي؟!
_ما تريدين مني فَهْمه!
_يجب أن يكون فَهْمك قدر المناسبة.
حرَّك حاجبَيه، ثم نظر إليها بتمعُّنٍ، وتساءل قائلاً:
وما المناسبة؟!
نظرت إليه بصمتٍ، ثم مالت على الكرسي إلى الوراء، شعَرت بأن فرحتها قد توارَت خلف ذاكرته المفقودة للذكرى، فحدَّثته بلُغة عشْعَشت بين ثنايا أمَلها بأن يُهديها ما تتمنَّى، ويَفيَ بوعدٍ قطَعه لها، ثم دخلت في حوارٍ لم ينتهِ إلاَّ بكلمة قالتها بعد أن احتقَنت غيظًا:
_انْسَ، فذاك خيرٌ
نظَر إليها في هدوء، قرأ غيظَها الذي ارتسَم على مُحيَّاها، ثم قال:
_ولِمَ أنسى؟ فأنتِ تُدركين كَميَّة الأرقام التي تصطفُّ أمام ذاكرتي؛ لذا لا تلوميني إن لَم أتذكَّر، فقولي ما لديك.
صمَتت ولم تُعقِّب على كلامه، تمنَّت من أعماقها أن يَكتشف الرقْم الذي يُؤرِّقها، ويُزيح عن صدرها اللهيب المشتعل، ويُفاجئها بالهدية التي وعَدها بها.
في اليوم التالي، استيقَظت لتجد الفَطور على المائدة، لم تَستغرب؛ فهذه عادته من حينٍ إلى آخر، أبقَت على صمْتها تَرتشف القهوة وتحدق في الفنجان بتأمُّلٍ كأنها تقرأ الطالع، ومن دون أن تُحرِّك رأسها أو تَرفعه من على الفنجان، فحيَّره أمرها، قام من الكرسي ودخل مكتبه يُقلِّب بين الأوراق باحثًا عن تواريخ فصول حياته، ثم غادر البيت في صمتٍ يُشبه صمْتها، فعادت إلى غرفتها وتَقوقَعت تحت الشراشف.
بعد ساعة، تفاجَأت به يدخل عليها الغرفة، وفي يده زهرة ويقول:
_عزيزتي هذه من أجْلك.
بقِيت مكانها تنظر إليه في صمتٍ وقد تَهلَّل مُحيَّاها انشراحًا، وفي غَمرة دَهشتها، أخرَج من جيبه مِفتاح سيارة - الهدية التي وعَدها بها من قبلُ - قدَّمه لها، قائلاً:
_عزيزتي، هذا العام ليس ككل عام، فعيدنا هذا العام يَحسِبه قلبي بالقرون، فقد قال الكل: إن زهرتنا لن يدومَ عِطرها؛ لأن الأشواك تُحيط بها من كل جانب، والغيوم تَكتُم أنفاسها، لكنها لم تَذبُل، وبقِي عطرها يَفوح حتى صار لطيبه مثلاً.
عزيزتي، زواج سعيد، وكل عام وزهرتي مُعطرة!
نزَلت دمعة فرحٍ من مُقلتَيها، ورمَت بالشراشف، ثم قفَزت إليه، لكن الشراشف الْتَوَت على قدَميها، فسقَطت على رُكبتيها، وأطلَقت أُهزوجة فرحٍ رغم وجَعِها من السَّقطة! وأدرَكت في داخلها أن الذكرى راسخة في ذهنه ولم يَنْسها، مع أن ذاكرته مُعبَّأة بالتواريخ، وأن لزهرتها سحرًا يفوق أيَّ سحرٍ، فقد علِقت أشواكُها بفؤاده.