استئصـــــــــــال
منذ سنوات وهذا الألم يرافقه ، لم يكن كأي ألم مر بأي من البشر قبله ، كان يشق صدره بوجع لذيذ ، يسكن سويداء قلبه ، لم يكن له من تأثير يتركه سوى تعب جميل ، ليس له وقت محدد لممارسة مهامه، وإن كان يتوافق بتناغم رقيق مع ساعات خلوته لنفسه ، وخلوده لتباريح أفكاره.
ألمٌ أزعج المحيطين به ، وأعْجز كل الأطباء الذين استسلم لهم بناء على رغبات المهتمين لأمره ، الوحيد الذي خرج من دائرة هذا الانزعاج والعجز كان هو ، لم يتفاعل مع مشاعر الخوف التي أصابت كل من يعرفه ، ولم يهتم لتعجب واستغراب الأطباء وتقاريرهم حول كينونة هذا الألم ، بل وصل إلى مرحلةٍ استلذ فيها طبيعة هذا الألم ، وصار مع تأخر عوارضه عرضة للقلق ، يحاول ايجاد لحظة للتواصل معه ، يستحضر في كل تأخير له جميع الطقوس الملائمة للتلاحم معه .
العجز أصاب حتى الآلات الحديثة التي جلبت من كل مكان ، والتي أُخذ إليها لكي تسبر أغوار هذا الألم العجيب ، ومع تأكد الجميع بأن شيئا ما يقبع في صدره إلا أنهم فشلوا في تحديد صورة واضحة له ،لا تحاليل أبانت ، ولا صور أوضحت ، جندوا كل الأطباء المختصين ، جراحين قلب ، أطباء أعشاب ، معالجين روحانيين وأطباء نفس ، لعل الوهم سكن نقطة الحياة فيه ، ومع هذا يرتدون عن تصوراتهم ، مع ورود تقارير بأن عقله في أوج الثبات ، يستمر الألم ، ويستمر المحيطون به في رؤيتهم لألمه ، ويستمر هو في حبه والتصاقه به .
جدال ، جلسات ، ندوات ، مؤتمرات ، اتصالات مع كل الهيئات العلمية وغير العلمية ، حلول لم يتفق عليها ، خلافات تضاف إلى الخلافات ، ويستمر هو في استلذاذ هذا الألم ، أخيراً توصلوا إلى قرار ، وأتفق الجميع دون الرجوع إليه ، سوف نشق عن صدره .. في حيثيات قرارهم ، عبارة ، عملية الشق ليست مبنية على يقين علمي ، لكنه حدس الخبراء و المسؤولين وهم من لهم الدراية بمصلحة هذا المواطن الغريب ، الذي يسكن تجويف صدره هذا الألم الغريب .
هاجس الخوف سيطر على المحبين له ، الخوف من أن يطاله أذى منها ، كما أن الخبراء توجسوا خيفة من أن لا يصلوا إلى استنتاج علمي قد يؤدي بمكانتهم ، ومن جانبهم كان المسئولون أكثر توترا عندما ران على أذهانهم أن الفشل في تحديد هذا الألم ؛ سوف يجعل المواطنين يتجاسرون على إخفاء ما في صدورهم عنهم .
جاء اليوم الموعود ، همس لنفسه، يجب أن يطلب منهم أن يتركوه هو وألمه ،يجب أن يعلمهم أن الألم الحقيقي عنده هو غياب هذا الألم ، نظراتهم له جعلته يأد هذه المشاعر قبل أن ترتسم على وجهه ، جيء بكل الإمكانيات ، حشود من المهتمين والفضوليين ، من له علاقة ومن ليست له ، العلماء وأنصاف المتعلمين ، طابور من وسائل الإعلام العام والخاص ، من يفهم في الطب الحديث والطب القديم ، الكل يحاول تسجيل كل شاردة وواردة عن هذا الداء الغريب الساكن قلب هذا الانسان الغريب ، جهز الجميع تقاريرهم ، بحث البعض في سلالته لكي يستنتج أي مورث أوصله لهذا الحال ، والبعض حضر بتكليف من جهات لا تفصح عادة عن عنوانها ومع هذا يعرفها الجميع بكل سهولة ،وهم أيضا يبحثون في سجلاته عن أي أمر يثير حفيظتهم .
ألبسوه ملابس غريبة ، قالوا له أنها معقمة ، حتى لا يتسلل إلى قلبك أي ملوث ، ضحك في قلبه ، وتحدث مع نفسه : إن قلبي أنظف من كل ما تستعملون من أدوات ومواد ، ومن أيديكم ووجوهكم التي تصطنع النظافة والبراءة ،أدخلوه حجرة لامعة الأضواء والأدوات ، علقوا على كل شبر في جسده سلك معدني ، وأوصلوا كل سلك بجهاز، تدارسوا الأمر سمعهم يهمهمون : كل شيء فيه عادي ، كل شيء فيه لم يتأثر ، وضعوا كمامة المخدر على أنفه وفمه ، أخبروه بأن يبدأ في العد .. واحد .. اثنان .. ثلاثة ..مائة .. ألف .. لم يتأثر ولم يتخدر ، أشار كبيرهم لصغيرهم أن استدعي كبير خبراء التخدير ، حضر على جناح السرعة ، وصف نوعا جديدا ، بدأ في العد من جديد ، وصل هذه المرة إلى المليون ، شعر بسكون من حوله ، توقف عن العد ، نظر حوله كان الجميع نياما .
في اليوم الثاني ، تجمع كل خبراء التخدير ، راسلوا كل المؤسسات والخبراء المختصين ، استجلبوا هذه المرة أخر ما توصل العلم إليه في فن التخدير ، نظر إليه بعضهم في تشفي ستنام أيها المزعج نومةً لا تستطيع معها إدراكا ، قبل أن يقربوا اكتشافهم الجديد ، قال لهم : شقوا عن صدري بدونه ، فُغرت أفواههم عجبا ، همس مادام ألمي عجبا ، فليكن البحث في جسدي عجبا ، قربوا له ورقة رسم كلمة فوق كلامهم ، وبدا كبيرهم في شق صدره .
توقف مشدوها للحظات ، ثم نادى على الجميع ، تجمعوا حوله .. صاح فيهم ، أن أنظروا : ماذا وجدت ، هذا الذي دوخنا ، وأرقنا ، ثم أدار يده في القلب المذبوح ، أنظروا مجرد قلم ، قالها وهو يخرجه ممزوجا بدم أحمر قاني .