عدت إلى إقامتي ذلك المساء والألحان تتماوج في مخيلتي والعطور ما زالت تغرق أنفي في بحيرة الرغبة ، أحب مشاهدة مدينتي ليلا حيث تبدو كلوحة فنية ، تتوزع الأشجار والمباني بانتظام على حافتي الطريق في حين تضفي الإنارة على بعض الحدائق نكهة سياحية خالصة وما زاد في سعادتي أكثر ، خلو الأرصفة من المواطنين ،معنوياتي تتدهور كما رأيتهم يطالبون بحقوق المواطنة ،أين المدينة الفاضلة وسط هذه الفوضى العارمة ؟ رؤيتهم تصيبني بالقرف والإحباط ، حتى القناة الوطنية لا أحبذها لأنها تتكلم يوميا عن المواطنين ، وإذا حدث وأن رأيت أحدهم يتباكى عبر قناة أجنبية فإنني أسارع إلى تغيير المحطة أو الانشغال بأشياء أهم ، كتقديم قطع اللحم المفرومة لكلابي المستوردة من الخارج .
- سيدي ليس لدينا سكن ، فأنت تعلم بأننا نقيم في خيمة منذ ثلاثة أشهر ، بإمكانك أن تتصور قسوة المعيشة في هذا البرد القارص ومعاناة الأطفال الصغار .
- وأين سكن آباؤكم ؟ تتزوجون في الفراغ وتنجبون على الأرصفة وتطالبون بالسكن ، إن الطبيعة لا ترحم أمثالكم
ولا يمكنني أن أتصور معاناتكم فأنا أعيش في قصر لا أعرف عدد غرفه ، أما بخصوص أطفالكم ، أتمنى أن تكون لديهم
المناعة الكافية لمقاومة الأمراض ، خاصة تلك المتنقلة عن طريق المياه وعلى كل حال فنحن بصدد إعداد أرضية
عمل في هذا الشأن والتي ستعرض لاحقا على الجهة المخول لها صلاحيات تطبيق ومتابعة مراحل وطرق تنفيذ البرنامج
المعد سلفا وجميع الأطراف ستقدم تقاريرها إلى اللجنة الوطنية التي ستنشأ وهذا بعد أن تحدد لجنة خاصة مقاييس إنشائها .
أي معنى للمواطنة في هذه البلاد التي أصبح فيها الأوباش يتطاولون على النخبة ، السلوكات الحضارية مهددة بهؤلاء
الرعاع القادمين من عصور الانحطاط ، لو أعد المواطن رسالة دكتوراه لكان موضوعها الشكاوي ، كلما فتحت
الصحيفة إلا وأفاجأ بهذا الكم الهائل منها ،ابتداء من رئيس البلدية وصولا إلى رئيس الجمهورية ، مع أنه لم يسبق لي وضع قدماي في السوق ، إلا أنني لاحظت عدم قبول المواطنين لأي سعر يقترح عليهم من طرف التجار وكأنهم يرغبون في الحصول على السلع مجانا ، لقد تعودوا على تحقيق المكاسب بدون جهد .
- سيدي ، مرت سنوات وأنا في دوامة البطالة ، أنا رب عائلة من سبع أفراد وكلهم بحاجة إلى ملبس ومأكل
ومستلزمات الحياة ، أريد منصب عمل ولو بواب أو عون تنظيف.
- ليكن في علمك بأن البطالة ظاهرة عالمية ولا تقتصر على بلادنا فقط ، حتى الولايات المتحدة الأمريكية تعاني منها وعلى مستوانا لا توجد مناصب مالية ، إذا وظفتك بوابا هل أدفع أجرتك من جيبي؟ فلابد من وجود الاعتماد المالي ،
وبصراحة حتى وإن وجدت فرص عمل فأنت لست جديرا بها ، فما هي الفائدة التي سوف أجنيها من توظيفك؟ المناصب لأصحاب المراكز العالية ، الذين أجدهم ويجدونني في وقت الحاجة أما أنت فبطالتك حتمية تاريخية لا مفر منها وإرادة إلهية ولا مرد لقضاء الله .
أتذكر أول عهدي بالمسؤولية حيث استقبلت مواطنا يشكو سوء أحواله والمصائب التي هبطت على رأسه ، أسلوبه في الخطابة يضمن له بامتياز رئاسة جمعية شكاوي المواطنين ، وبما أنني لم أكن أعرف مكره وخداعه فقد استمعت إليه مليا وما أن خرج حتى أصبت بحالة اكتئاب قوية وبقيت في منزلي ثلاثة أيام كاملة ، أتابع القنوات الفضائية ، وفقدت شهيتي للأكل وزاد وزني كثيرا واقتصرت على بعض الخرفان المشوية، أهديت لي كمواساة من طرف بعض الأصدقاء وعندما شفيت و اجتزت مرحلة النقاهة بصعوبة ، نصحني طبيبي الخاص بعدم رؤية المواطنين وتفادي سماع أو قراءة أخبارهم وبالطبع قطع كل العلاقات مع القناة الوطنية .
- سيدي أنا أرملة ولدي ثلاث أطفال ، توفي زوجي في ريعان شبابه دفاعا عن هذا الوطن الغالي ساعدوني لأقاوم صعوبة المعيشة بعمل أسد به رمق اليتامى .
- اقتصاد السوق لا يبنى بإعانات ومناصب العمل غير موجودة
– الهاتف يرن - أهلا سيدي حبيب الكل ، طبعا لم أنساك وحتى وإن انشغلت عنك فآخر سهرة ما زالت ألحانها تدور في
رأسي ، في أي وقت يريد أن يبدأ اليوم أو غدا وإن أراد فهو في عطلة مدفوعة الأجر ،لا شكر على واجب – يضع
السماعة - الأزمة شاملة وزوجك رحمه الله عليه وندعو له بالخلود وفسيح الجنان أما أنت فيجب أن تواصلي رسالتك ،
زوجك ترك لك أمانة ومات في سبيل الوطن .
- لكن سيدي لقد ترك لي حملا ثقيلا وأعطى زهرة عمره لهذا الوطن .
- حديقة الوطن مليئة بالأزهار وزوجك ليس آخر زهرة تقطفها أيادي الغدر فهو شهيد الواجب وسيجازيه الله بكل تأكيد ،أما الوطن فلنا جميعا وكلنا في خدمته ولكن كل واحد من موقعه الخاص ، فلتعلمي سيدتي الفاضلة بأن الوطن ليس
حسابا بنكيا نسحب منه متى نشاء ، بل هو شيء أنبل بكثير ،هو رمز مقدس يسكن أرواحنا الطاهرة ولا يقدر بثمن .
- سيدي هل هذا الكلام الجميل الذي تقوله يكفي أطفالي شر العراء والجوع ؟
- ليس بغريب أن يصدر منك هذا الكلام ، فأنت مثل الآخرين تحملين حقدا على الإدارة ومؤسساتها ومن سوء حظك فأنت بعيدة كل البعد عن الجمال والفتنة ولا تحملين من الأنوثة إلا الاسم ، لو كنت جميلة وجذابة لحولت الوطن إلى عقد من الماس وزينت به صدرك .
زوجتي المقيمة معي في مستوطنتي الخاصة تدرك مدى حساسيتي من المواطنين فهي دوما صامتة وإذا صادف وأن تكلمت فإن حديثها يقتصر على مواضيع خيالية أو خارجية ، حتى الخدم والحراس أعطيتهم تعليمات شاملة وصارمة لتفادي التعامل مع الناس وضرورة التقيد بالحد الأدنى من الاتصالات اللازمة .
ابني الوحيد يعيش عالمه الخاص ولا يعرف بأنه يعيش داخل هذا الوطن ، ولا يعرف عن هذه البلاد سوى الطريق المؤدي
إلى المطار الدولي ، في منتصف ليلة صيفية أيقظني بكاؤه المفاجئ ، هرعت إليه فوجدته في وضعية لا يحسد عليها
فأعطيته بعض الحلويات وأخبرني بأنه رأى كابوسا مرعبا ، مواطنا يلعب معه في حديقة القصر ، انسابت دموع الأبوة
من عيني واحتضنت فلذة كبدي وقطعت العهد على نفسي بأن لا يقترب منه مواطن ما دمت حيا وفي اليوم الموالي
استدعيت أشهر طبيب في المدينة العائمة ، قبل وصوله كانت كل معلوماته عندي حيث تأكدت بأنه من أصحاب السلوكات
الحضارية وغير مصاب بمرض المواطنة ولا ينتمي إلى فئة المتسلقين ، بعد دقائق خرج من جناح ابني وأخبرني بأنه
يعاني الوحدة القاتلة وأصر على ضرورة توفير أطفال له لتطوير كيانه الاجتماعي ، فكرت في استيراد أطفال من الخارج بعيون زرقاء وخضراء أو إرسال ابني إلى عاصمة الضباب حيث الحضارة والتطور وفضلت الحل الثاني وهكذا أنقذت ابني من مستنقع المواطنة .
- سيدي أنا موظف بسيط ولكن بساطتي لم تمنعني من قول الحقيقة ، أنا مواطن صالح أحب هذه الوطن حتى النخاع ، رأيتهم ينهبون ويسرقون فقلت لا لتركيع البلاد والعباد ، فهددوني ولما نشرت رسالة مفتوحة إلى أعلى الهرم ،
أوقفوني عن العمل وأصبحت بين عشية وضحاها أعاني ضيق الحال وهم ما زالوا يعيشون رغد الحياة .
- كلامك لا يدل على بساطتك بل يحمل في طياته لغزا كبيرا ، إما أن تكون صاحب أفكار خطيرة وبالتالي فأنت متحزب وتعمل على تخريب الوطن من الداخل أو تكون رجلا أنهكته الأيام ففقد عقله وإلا ما علاقة الوطن بالنخاع الشوكي .
- كيف تقول لي هذا الكلام يا سيدي؟ وأنا الذي اكتشفت أعداء الوطن .
- ومن أدراك بأنهم أعداء الوطن ، إنهم مسيرون والمسؤولية صعبة وقد يخطئ المرء أحيانا ولكن هذا لا يعني
بأن ندفع برأسه إلى المقصلة ، يبدو أنك عدو نفسك ولا تدري لقد تدخلت في أمور لا تهمك ومن تدخل في ما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه لقد ضيعت قوت أولادك أما الوطن فله رب يحميه وهو ليس مشجبا نعلق عليه مآسينا وخيباتنا .
- لكن سيدي ، من يوقف أعداء الوطن وينصفني على الظالمين ويرجع لي كرامتي واعتباري .
- دع الأمر للأيام فلا غالب إلا الله ولا تنس بأن يوم الحساب سيكون جميع الناس سواسية ، وأنصحك بأن تنزع من قلبك وهم الوطن وعش أيامك بحلوها ومرها والشكوى لغير الله مذلة .
خرجت كعادتي مبكرا لكي أتفادى أكبر قدر من المواطنين ولكن لا مفر من رؤيتهم فحركة المرور ثقيلة، لا أدري سر
هذا الكم الهائل منهم ، اليوم يملأون الطرقات و الأرصفة و النوافذ وما زاد الطين بلة هو كثرة سيارات النقل الجماعي ، لابد من التفكير في إنشاء طرق خاصة بالنخبة والمجتمع المدني ، يبدو أن الأمر يتعلق بعيد وطني ، لقد وضعت هذه المناسبات خصيصا لهؤلاء المواطنين ليعبروا أكثر عن وطنيتهم ووفائهم لثوابت وقداسة هذا الوطن ، ولم يبق لنا في هذه البلاد سوى أعياد رأس السنة.
أراد أحد الأوباش مزاحمتي بسيارة ، أكل عليها الزمن وشرب وغادر المكان ، تخلصت من الملعون وواصلت طريقي متسائلا عن جدوى بقاء السيارات القديمة ، توتر الأعصاب وتلوث البيئة .
أجريت مكالمات هاتفية عديدة وأعين المواطنين على حافة الطريق تلتهمني وتبعث بسهام من الحقد والكراهية ، ما ذنبي
إذا كنتم لا تملكون هواتف نقالة وسيارات فاخرة ، من المؤسف دخول شركات أجنبية لتستثمر في الهاتف المحمول
فهذا من شأنه جعله في متناول كل من هب ودب ويقضي على البعد الحضاري لأجهزة الاتصال ، حتى النظارات
التي أحملها لم تخف ملامحهم عني فهم جميعا متشابهون ولديهم نفس الآراء والانطباعات ويحبون المسيرات العفوية
ويتسابقون للحديث مع أي صحفي معه فريق تصوير ، المهم هو المشاركة والظهور على الشاشة وغاية مطمح لأي مواطن هو الظهور في نشرة الثامنة وهكذا يعيش نشوانا وسعيدا أياما لأنه شوهد من طرف أفراد العائلة والأقارب والجيران وقد يتصل به بعض معارفه من الخارج ليخبروه بأنهم شاهدوه عبر القناة الفضائية .
وصلت إلى مقر عملي بكل تثاقل وملل فوجدت في بهو الانتظار عدد كبير من المواطنين ، دخلت مكتبي وأنا ألعن في قرارة
نفسي أيام الاستقبالات .
تصفحت الجرائد الموضوعة أمامي ، فكرت قليلا ثم قررت العمل التاريخي الأول في حياتي ، ألا وهو حل الكلمات المتقاطعة باللغة العربية .