يعودُ "غلام" مساءَ كلِّ يومٍ إلى حُجرته في مركز إقامة العمّال حيث يسكنُ في غرفةٍ يشاركُه فيها خمسةٌ آخرون .. يتناولُ الرز المسلوقَ طبق َعشائهِ اليوميّ ..وربما زارت الطبق شريحةٌ من لحم الدجاج..يرتمي على سريره،.. يفركُ رجليهِ بحثاً عن الدّفء .. يدفنُ رأسهُ في وسادته..ثم تأخذه رحلةٌ قصيرةٌ هناك إلى عائلته..وربما يسكبُ شيئاً من الدموع قبل أن يغطّ في سباته..
صباحاً عليه أنْ يلتئمَ مع غيرِه في طابورٍ أمام َ دورة المياه .. يلطمُ وجههُ بصفعتين من الماء .. يسرّحُ شعره بمشطه الغليظ ..تعانده خصلةٌ فيمسحها بزيتِ الشَّعر فتتهادى مرغمة.. يأخذ زوّادةَ طعامه في كيسٍ من النايلون.. يرتدي زيّ العمل ثم يهرولُ إلى الحافلة.. هناك يختلط أزيزُ المراوح المعلقة على نوافذ الحافلة بشخير من عاود النوم من العمال وموسيقى انبعثت من هواتف محمولة حازها بعضُهم..
.. و" غلام " عامل البوفيه لدينا في الشركة ، واحد من بين الآلاف من العمال الذين قدموا من شرق آسيا للعمل ، يدفعهم حلمُ تحسين ظروف الحياة ....زواج .. بناء مسكن ..ثم عودة ميمونة...ألفةٌ نشأت بيننا و بين "غلام شاه ".. تعلّم شيئاً من العربية.. كنا نتندّر حين نسمع طرفاً من عربيّته المكسّرة .. كان يتوسّطُنا إذا اصطففنا للصلاة ..فإذا قضيت الصلاةُ عاد الفارقُ في العمل ليأخُذَ دوره بيننا كموظفين.
كنتُ أرى غلام مطلعَ كلِّ شهر جالساً يحرّك أصابعَ يديه ليس عزفاً وإنّما مشغولاً بالحساب على طريقته .. يختم مراسمَه تلك بهزة رأسه المعهودة معلناً إذعانه لحساباته..إن عليه أن يسدد ثمن التأشيرة الذي ابتزَّه منه وكيلُ العمل هناك في موطنه . يجاهدُ لسدادها قبل أنْ يرسل ما تبقّى من معاشِه الشّهري قوتاً إلى زوجته وطفليه وأُمّه العجوز..يتلقفون ما يرسل إليهم وأعينُهم تتقلّب في الأفق ينتظرون لقاءه منذ أن تركهم قبل ثلاث سنين.
لكنّ "غلام شاه " لم يكن في ذلك اليوم كما عهدتُه..كان يتنقلُ بخطواتٍ وئيدة حائرة .. يجرُّنفسه جرّاً عبر دهليز المكاتب الممتد كأفعى تمطّت واستطالت .. وهو يحمل بين يديه صينية الشاي و يحدِّقُ فيها كمن يقرأ شيئاً..
استوقفتُه قائلا:
- ما بك يا "غلام" ؟ قل لي ما الذي يشغُلك؟
- الله كريم ..هكذا أجابني بصوتٍ خافت بالكاد لامس أسماعي، وقد طواه الأسى بجناحيه .. وباقتضابٍ لم أعهدهُ فيه من قبل.. أدارَ ظهره لي تاركاً من خلفِه تنهيدةً تسلّلت إلى نفسي وأخَذتْ لها موقعاً في مجلس آلامي المزدحم ..عزمتُ حينها أنْ أُراجعَه في الحديث فيما بعد ، علّي أظفر منه بتبيانٍ يسدّ فضولي ويسرّي عن شيءٍ مما في نفسه .
استوقفتُه ثانية ًوانا أجتاز الممر مغادراً المكاتب في نهاية الدوام ..أخذت بيده جانباً وقلت له : حدثني مرة أخرى ما بك ؟
بالكاد جاد قائلاً بلغته المكسّرة : " ماما في مريض ..أنا ممكن صير بلاد .."
قالَ ذلك بينما ضغط على شفتيه وأغمضَ عينيه.. حابساً دمعتين تسلّلتا على وجنتيه المتحجرتين..
..أخذتُ أربّتُ على كتفه ..أطرقت قليلاً وتساءلت في نفسي ..ما الذي بوسعي أن أقدّمه له..
بعد عدّة أيام ترك لي ورقةً أخبرني فيها أنّه قد اضطُرَّ للمغادرة نهائيًّا بعد أن حصّل أتعابه لينفقَها على علاجِ والدتهِ المسكينة..
..لم نعد نرى غلام شاه...جاءنا آخرهو " أرشد " .. وجهٌ جديد ، لكنّ الخطوَ الوئيد و النظر الشاردَ هو ذاتُه... أخذت خطوات "أرشد" ترتسم على الدهليز شيئاً فشيئاً..كنت أتأمله من حينٍ لآخر..كنت ارمقُهُ وأرى غلام في نهاية الدهليز ... وكأنّه يستدعيه.. !