فرعونُ..صُحُفياً لامعاً !
رُغمَ أنَّهُ يُزعجُني بكثرةِ أسئلتهِ ولغَطِهِ في دس ِّ أنفه في كلِّ شيء، واستغبائِهِ واستغابَتِهِ الآخرين، والخوضِ في أعراضِ النّاسِ وطولِ اللِّسان، فزجرتُه حينا، وربَّما عذرتُه أحيانا لأقولَ إنَّهُ يتسلى، ليقتلَ الوقتَ أثناءَ مسحهِ حذاءَ الزُّبون، ويهربَ من مشاكلِ الحياة.
فرعونُ هذا ماسحُ أحذية، حاذقُ الصنعةِ ورثَها عن أبيهِ كابراً عن كابر. أوكما يقولُ هو، إذا امتدحتهُ ورفعتُ نياشينَه!...فكانت أحيانا تعجبني ثقتهُ الزائدةُ بنفسهِ واعتدادُه. وإنَّك لتحملُ إليه قدمَك اليُمنى، فيلبسُ جانبي الكاحلِ قطعتي الكرتونِ المُربَّعتينِ الصغيرتينِ، ليقيََ الجواربَ بللَ الرغوةِ بالفرشاةِ، ولينزعَ قبلَ كلِّ شيءٍ الغبارَ بقطعةِ قماش..ثمَّ ينقرُ بقفا الوُسطى مُقدِّم الحذاءِ لتستعيدهُ إلى الأرض. ولترسلَ له الحذاءَ الآخرَ، فينقرَهُ. ثمَّ ترسلُ الحذاءَ الأولَ ليدبغَهُ بالدِّهان، ثم ينقرُهُ. ثم ترسلُ الحذاءَ الآخرَ فيدبغه، ثم ينقرُه. ثم ترسلُ الأوَّلَ ليُلمِّعهُ بقطعةِ قماشٍ غيرِ سابقتها، فينقُره. ثم ترسلُ الآخرَ للتّلميع . حتى إذا استويتَ واقفا على الجُودي دفعتُ له نصفَ دينارٍ، وخلفَكَ طابورٌ من النّاسِ ينتتظرون!
قال لي ذاتَ يوم وقد فرغَ، وكنتُ الأخيرَ في الطابور: ألا ترى أنني لا أرفعُ رأسي عند استقبالِ الزُّبونِ إلاّ مرّتين؛ مرةً عندما أبدأ، ومرة ًعند أخذِ الأجرةِ ِمن الزُّبون. وأحيانا أنسى...فأمكثُ من أول الطابور حتى آخره؛ أستقبلُ وأقبضُ مُطأطئا مُكبّاً. وقد أثار ذلك فيّ الشَّفقة!
ولقدْ أخذني التفكيرُ مرّاتٍ لأسألَ، وأنا في طريقي إلى دارِ التَّرجمة : لماذا سمّاه أبوهُ فرعونَ؟ لماذا لم يجدْ له أبوهُ إسماً آخرَ ، أيَّ إسمٍ؛ أمّا فرعونُ وماسحُ أحذية فمُختلفانِ ولا يتّفقان. فيتخاطرُ إلى ذهني قولُ ربنا عزَّوجل "فأراهُ الآيةَ الكُبرى، فكذّبَ وعصى، ثمّ أدبرَ يسعى، فحشرَ فنادى، فقال :أنا ربُّكم الأعلى"...فأستغفرُ الله..أستغفرُ الله، وما علاقةُ ذلكَ وما يتواردهُ الخاطرُ ؟!..فأسألُ :فهل خطر ذلك الخاطرُ إلى ذهنه يوما!
ولقد قرَّظتُ يوما حَذْقَهُ في فنِّ الصَّنعة، ممتازاً مُتميزاً على أقرانِهِ الثلاثةِ الآخرينَ المنتشرينَ على رصيفِ السُّوق. قال: نعم ياسيدي، فقد ورثتُها كابراً عن كابرٍ. حتى إنّهُ شافتْ نفسهُ يوما وقالَ : لست أدري لماذا شيوخُ التفسيرِ ينقمونَ على جدِّيَ الأكبرِ فرعونَ، ففغرتُ فمي ثم قلت: آه ه ه ..نَعم!!
قال: هذا صحيحٌ، ألمجردِ أنَّهُ قالَ " أنا ربُّكم الأعلى"...يا أخي ليسَ هكذا يجبُ أن يكونَ التَّفسير..قلتُ: يا رجلُ ما أطولَ لسانَكَ، وأقلّ أدبَكَ..كيف يجبُ أن يكونَ التفسيرُ يا فهمانَ باشا!؟
تابع: أنتَ..أنتَ.. ألستَ ربَّ أسرتِك...ومديرُ دار الترجمة أليس ربَّ عملِك...فقلتُ : يا سلام!
قلت في نفسي "لا بأس.. خذِ الحكمةَ من أفواهِ المجانين" وتابعَ: وربُّ الأسرةِ ..وربةُ البيت!..لماذا لا يُحسنونَ التفسيرَ..قلت : لكَ لسانٌ طويلٌ يحتاجُ إلى قطعٍ..قال: ليس أطولَ من لسانِ الصَّحفيين، قلتُ : عفواً لستَ صحفيا!...وتابع : انظر..انظرْ، ماذا يكتبون في الجرائدِ...كلامٌ فارغ...والله كلامٌ فارغٌ!...لو تيسَّر لي لكتبتُ أحسنَ منهم!
قلتُ معارضا : لكن الصَّحافةَ سياسةٌ واقتصادٌ وثقافَةٌ ..قال : يا أخي دعْ عنكَ ! فقلت ممازحاً :ما رأيكَ لو تصبحُ صُحُفيا...قال : قد فكرتُ في الأمرِ، وإني أفكِّرُ في الأمرِ بجديةٍ!...قلت : ويلكَ!..قالَ : انظرْ إلى الصُّحفيِّ "هيكل" ماذا يكتبُ وكيفَ يصنعُ الإثارةَ، بل إنَّهُ يكذبُ أحيانا. أسمعت ما قال عن الدستورِ المصريِّ الجديدِ، الذي وضعهُ مائةٌ من مفكري مصرَ، قال: "إنَّ الدُّستورَ كلَّهُ معيبٌ".ثمَّ عاتبْ بعدَ ذلكَ ماسحَ أحذيةٍ مثليَ عن المصداقيةِ في عملِ الصَّحافةِ. وتابعَ: المهمُّ إذا كتبتَ..هو أن تصنعَ الإثارةَ..هذا كلُّ شيء!
تقدَّمَ فرعونُ للعملِ في إحدى الصُّحفِ المغمورةِ، فكانَ يكتبُ عن الفضائحِ التي تحدَّثَ في المجتمعِ، داخلَ البيوتاتِ العريقةِ، والصالوناتِ. وكان يأخذُ رأيي فيما يكتبُ في البدايةِ، وقدْ كان َحاذقاً في تغييرِ أسماءِ الشُّخوصِ على الحوادثِ. وقد شجعتُهُ حيناً وزجرتُه حيناً. وقد
لاقى في ذلكَ نجاحاً، فارتقى في منصبهِ ذاك ليصبحَ مُحرراً وصاحبَ عمودٍ ثابتٍ في الصَّفحةِ الأولى، ولم يعدْ بعدَها يُراجِعُني في شيء!
كتب َذاتَ يومٍ في عمودهِ في الصَّفحةِ الأولى ...مقالاً بعنوانٍ .."أنا ربُّكم الأعلى"...حملَ فيها على شُيوخِ التَفسيرِ...في تفسيرِ الأيةِ كما أسلفتُ ...وأ ضافَ: ألم يقلْ يوسفُ لصاحبيهِ في السَّجنِ " أما أحدُكما فيسقي ربَّهُ خمراً"..ألم يقلْ للَّذي نجا منهما " ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ ما بالُ النسوةِ اللَّّاتي قطعنَ ايديَهُنَّ" ...
ولقدْ نفدتْ جميعُ نسخِ ذلكَ العددِ، وصار النّاسُ يتلاقفونَ الجريدةَ، فتنفدَ الأعدادَ جميعا، وقدْ لاحظَ مالكو الجريدةَ ذلك، فعينوه ُمديرَها الأعلى، ورئيسَ تحريرها ومساهماً فيها. وكنتُ كلما أقرأُ له، تقفزُ صورتُه وسطَ ما اقرأ ليقولَ: أنتَ كما أنتَ ..مُترجمٌ في دارِ التَّرجمةِ.. أرأيت َ كيف أصبحتُ لامعاً كالحذاءِ، فأنظرُ إلى حذاءي المتَّسخين، فأقولُ: إنَّهُ حقاً يا صاحِ ما تقولُ!
ولما تسلَّمَ الإدارةَ، اجتمعَ أوَّلَ يومٍ بالصحفيين، في قاعةِ الاجتماعاتِ في الجريدةِ...واصطُفَّت الطاولاتُ على شكلٍ مستطيلٍ. وإنَّهُ ليقفُ على رأسِ الجِلسةِ، وقد أسندَ جانبَ مُؤخِّرَتهُ جانبَ الطاولةِ؛ قدمُهُ اليُمنى مُنبسطةً في وضعِها الطبَّيعيِّ على الأرضِ، وقاطعتْ ساقُهُ اليُسرى ساقَهُ اليُمنى، وارتكزَ رأسُ حذاءِ قدمِه اليُسرى على الأرضِ؛ حذاءانِ لامعانِ فيهما أثرُ صَنعة!!
نظرَ المجتمعون َإلى حذاءينِ لامعينِ يحملانِ حضرةَ المديرِ. ونظرَ بعضُهم إلى أحذيةِ بعضٍ، فوجدوها يعلو مُعظمُها الغبارَ فأحسَّ السُّخريةَ منهُ في قرارةِ نفوسِهم. أرادَ أن يردَّ الإهانةَ الصامتةِ، فنظرَ من عل ٍ إلى أحذيةِ المؤتمرينَ وقالَ : مطلوبٌ من كلٍّ منكُمْ أن يحلقَ وجْهَهُ كلَّ يومٍ، وأن يكونَ حذاؤه لامعاً كوجْهِه!!
وتابعَ: سياستي في الجريدةِ ستكونُ : أن تخلقَ الخبرَ الصارخَ المثيرَ؛ لا أريدُ الأخبارَ العاديةَ، إن كانَ ولا بدَّ، لتكنْ في الصَّفحاتِ الداخليةِ، حيثُ إعلاناتِ نعيِ الموتى!
أيها الصُّحفيون؛ أنا خالقُكم وصانعُكم...سأُغربلُكم ...وأنُخِّلُكم...وأعيد صياغَتَكم من جديدٍ: لا أدعي سبحانَ اللهِ ، أنني أنا الله ُ؛ أستغفرُ اللهَ ..أستغفرُ الله. كما فعلَ جديَ الأكبرُ فرعونُ، وفهمهُ شيوخُ التَّفسيرِ الأغبياءِ خطأً! لمّا قالَ " أنا ربُّكم الأعلى"..فهو ملكٌ، وابنُ ملكٍ ويحقُّ لهُ ذلك. لكن النّاس للأسفِ يجهلونَ الفلسَفة!
قال أحدُ الجالسين، وخشيَ أن يفصلهُ فرعونُ الصَّغيرُ من الجريدة: لكنَّ اللهَ الذي نؤمنُ به لا تدركهُ الأبصارُ، وهوَ يدركُ الأبصارَ!
فرعونُ الصَّغيرُ: يا عليُّ..ألستَ تدعى "علي"؟ لو ناديناك أيها العليُّ، الا يكفِّرُنا سماحةُ المفتي؟!
كبِّر عقلَك يا صديقي...هذه فلسفةٌ، والشيوخُ لا يعقلونَها...
أيها الصُّحفيون: عندي من الفلسفةِ في رأسي، ما لو كان أفلاطونَ وسقراطُ وابنُ رشدٍ وابنُ باجةَ...بلْ وفرويدُ ونيتشةُ وهيجلُ وسبنسرُ وبرناردُ شو، أحياءُ لرفعوا قبعاتِهم أمامَ صدورِهم، وانحنوا لي!
همسَ أحدُ الجالسينَ لجارهِ: لصنعوا منها أحذيةً!...وهمسَ آخرُ: بل لمسحوا بها أدبارَهم!
وهمسَ آخرُ: لمسحوا بها أحذيتَهم، فاصبحتْ أكثرَ لمعانا!
قرأَ فرعونُ الصغيرُ لغةَ الشِّفاهِ للهامسِ الأخيرِ، فقالَ: إذا سمحتَ...قبلَ أن تذهبَ إلى مكتبكَ، أريدكَ عنديَ في المَكتب!
في ساحةِ مقهىً خارجيةٍ قريبةٍ من دارِ التَّرجمةِ، جلستُ ذاتَ مساءٍ على طاولةٍ تحت َشجرةٍ أحتسي فنجانَ قهوةٍ وجريدةٌ أقرؤُها. وإذا بسيارةِ "مرسيدس" سوداء َفارهةٍ...ينفتحُ البابُ فتنزلُ كرة سوداءَ تتدحرجُ نحوَ المقهى، تراءت لي دون كبير التفاتٍ. ورأسٌ تكوّر حتى غطسَ في الرقبةِ. عدتُ أتابعُ الجريدةَ، فإذا الكرةُ تتدحرجُ إلى حيثُ مجلسي، فإذا هو صاحبُنا مدير الجريدةِ صاحبُ الحذاءِ متوجِّهاً إليَّ. فعانقني بحرارةٍ حتّى لطَّخَ بعضُ عرقهُ جانبي وجههُ، وقالَ: أينَ أنتَ يا رجلُ.. تعبتُ حتى وجدتُك!
طلبتُ له فنجانَ قهوةٍ...ثمّ قال بعدَ لأيٍ: ألا ترى أنَّني أصبحتُ رئيساً للتحريرِ ...قلتُ :بلى ..وهل يخفى القمرُ!
قال : وأنتَ...أنتَ ..لم تصعدْ ولم تنزلْ. قلت: يُعزُّ من يشاءُ...ويُذلُّ من يشاءُ!
قال: أردتُ أن أشتهرَ أكثرَ...قلتُ : أكثرَ! كيفَ ...ما شاءَ الله أنتَ مشهورٌ...قالَ : عالميا..ً
قالَ: أريدُ أن أصبحَ مثلَ روبرتَ فيسكٍ...أريكَ رولو...باتريكَ سيلٍ ...ثم سكتَ وأضافَ: يوري أفنيري
قلت: يا سلام ..أصبحتَ ذا مقامٍ عالٍ جداً في الثقافةِ الصحفيةِ...لكنْ يوري إسرائيلي!
قال : أعرفُ..أعرف..لكنهُ محبٌّ للسلام..." ياخيِّ حُط في الخُرْج"
صحيحٌ أن جديَ الفرعونَ قتَّل أبناءَهم، واستحيا نساءَهم...يومَها كان الدور ُلنا...أما اليومَ فالدورُ لهم...نحنُ وهمْ يريدونَ السَّلام...ثم نحنُ الآن نقطفُ بركاتِ السَّلام!
قلت : ماذا تريدُ مني؟! ...قال: كتبتُ مقالاً صارخاً ...أريد أن تترجمَهُ إلى الإنجليزيةِ...لأرسلهُ إلى صحيفةِ الغارديان!
أخرجَ من جيبهِ مجموعةَ أوراقٍ، ناولني المقالَ...شدَّني العنوانُ " أنا الله.. " ذُهلتُ.. حبستُ أنفاسيَ..وقلتُ بصوتِ خفيضٍ :...يا "واطي!" ..أنتَ الله!..فتحوَّل هذهِ المرةَ إلى كرةٍ من جليدٍ..وتحولتْ إلى كرةٍ من لهبٍ ..وانقضضتُ عليهِ وتدحرجنا...حتى تحوّلَ إلى كرةٍ من ماءٍ.ُثمّ إلى بخارٍ دخلَ سيارتَه من النَّافذة.. ثمّ لم أرَه..أدار محرك السيارة وهوبخار..ثمّ من بعد ذلكَ انطلقَ وهوَ هباءٌ!
عدتُ إلى حيثُ كان مجلسي من الطاولةِ..جَلست ُ...شربتُ كأسَ الماءِ الّذي كانَ مازالَ بارداً..فركتُ عينيَّ، وهززتُ رأسيَ لأصحو وحملقتُ، ثمَّ تنفستُ الصُّعداء..وقلتُ: أستغفرُ الله..أستغفرُ الله!