تواطأ القلق مع التوجس والريبة والخوف من المجهول لصياغة ملامح وجه مينا ميخائيل رءوف .
الأمور لا تسير على ما يرام هنا في المدينة الجميلة .. الشوارع والجدران والميادين والكورنيش وشاطئ البحر كالبشر تماما ً.. جميعهم في حاجة إلى الشعور بالأمان والى هدنة طويلة يعانقون خلالها سلامَهم المفقود .
جميعهم يفتقدون الإحساس بالطمأنينة والسكينة .
غيوم كثيفة.. وأسراب من طيور سوداء مخيفة.. تنتمي إلى حكايات الخرافة وتحمل رائحة الأساطير.. تحلق في سماء المدينة العريقة التي بدتْ على غير عادتها شاحبة ومَريضة .
يخطو مينا بقدمه الفتية أول خطوة خارج بيته في الطريق إلى عمله اليومي .
يستند بيديه على باب حديقة بيته الصغير ، ينظر جاذباً قامته الفارعة للوراء إلى أسراب الطيور المحلقة في السماء.. فيشعر بانقباض قلبه ويمتقع لون وجهه .
يسير في طريق ملئ بالأشواك ويصطدم جسده بشكوك وظنون وهواجس كأنها أشياء محسوسة تؤلم الجسد قبل أن تعذب الروح .. يتراءى له أمام عينيه الواسعتين سرير ابنه عزت وسرير ابنته شيرين وقد غطتهما الدماء.
تركض أمام عينيه زوجته تحمل ملاءات السريرين المخضبة بالدماء وهى تنادى في ذعر على ابنهما وابنتهما .. يقف فجأة.. ينفض وجهه بشدة ثم يغطيه بيديه .. يدعك جبينه وعينيه.. ويرفع رأسه إلى السماء مستغرقا ً في الحيرة.. ويستدير في لحظة انعتاق وتحد .
يخرج من جيبه هاتفه المحمول ويضغط بأصبع مرتعش على أرقام هاتف زوجته .
ما تخافش يا حبيبي
ما تقلقش علينا يا مينا
ما حصلش حاجة ومش هيحصل حاجة .. إحنا في حمى الرب.
إحنا هنا في أمان
دي بس كوابيسك وتهيؤاتك
عزت وشيرين نائمان في غرفتهما .. روح انت الشغل في أمان وارجع لينا والرب يحميك
صمت مينا ولم يرد على زوجته وأقفل الخط وقد اتخذ قراره .
إلى الكنيسة اليوم .. سوف أذهب إلى الكنيسة .. لن أذهب إلى العمل .. سأقابل أبونا .. لم يعد هناك وقت وليس هناك داع للانتظار .. لم أعد أحتمل .
هكذا خاطب نفسه .. وقد علق عينيه الزائغتين بحركة حذائه وهو يعدو بجد في طريقه إلى الكنيسة التي لا تبتعد كثيرا ً عن منزله .
يرسم محمد سلام الشاويش الأسمر النحيل ابتسامة عريضة على وجه مريح في مقابل نظرة الريبة العميقة المنطلقة من عيني مينا وهو يدخل مسرعا ً إلى الكنيسة .
يعرف مينا عم محمد جيدا ً ويحفظ ملامح وجهه وهيئته البسيطة المتواضعة وهو جالس بسلاحه الميرى أمام باب الكنيسة .
محمد جالس هنا منذ زمن بعيد بهذا السلاح القديم وتلك الهيئة التي لم تتغير ولم تتبدل كأنها صفحة من كتاب التاريخ .
أزيك يا عم محمد
أرادها مينا أن تخرج من فمه طبيعية كالمعتاد .
أراد أن يرددها تماما ً كما كان يسمعها من والده.. وهو يطمئن بها على أحوال ذلك الرجل الطيب الذي صار معلما ً من معالم كنيسته وجزء ً من تراثها وشيئا ً من حضارتها كما صارَ تراثاً يميز الشارعَ كله بروح وذائقة منحوتة بالصفاء والطيبة ومعجونة بالود والسماحة وحب العطاء .
لكنها لأول مرة تخرج من فمه مغموسة بريبه وهواجسه .. مسكونة بالشك والظن القاتل .
إنه لا يتصور الكنيسة بدون حارسها الأسمر الطويل النحيل وسلاحه المعلق في شموخ على كتفه .
ولا يتصور أحدا ً سيحرس كنيسته من الأخطار .. كما يحرسها ويحميها عم محمد .
كان لا يزال صغيرا ً عندما عرفه والده على حارس الكنيسة .
سلم على عم محمد يا مينا .
دا بلدياتنا يا مينا .. من سوهاج .
وقاعد في الإسكندرية هنا من عشرين سنة .
علم مينا من أبيه الموظف بالبريد.. أن هناك أشياء مشتركة كثيرة بينه وبين حارس كنيسته .
ليس فقط لأنهما من أصول واحدة ومن محافظة واحدة وأنه صعيدي مثلهم .. ولكن هناك هاجس يجمعهما ويجعلهما مترابطين متحالفين ضد خصم مجهول عنيد .
علم مينا ذلك من وصايا أبيه له بعم محمد سلام .
خلى بالك من الراجل الطيب ده يا مينا وما تزعلوش .. دا هو اللي حامى كنيستنا.
خلى بالك منه يا مينا لأن إحنا وكنيستنا من غيره مهددين من ناس كتير .
يرسم عم محمد ابتسامة عريضة على وجهه البريء.. وتضحك في حنان عيناه ويحمل برفق مينا على يديه .
يطمئن مينا بين يدي الحارس الطويل ويداعب بيديه الضئيلتين السلاح الميرى.
يحمل ميخائيل ولده مينا .. ويوقفه بجوار عم محمد سلام ليظلله سلاحه .
أزيك يا عم محمد يا راجل يا طيب
قالها ميخائيل بود ومحبة .
أزيك ... يا ...
قالها مينا بصوت مكتوم وبحروف صامتة ووجه منزعج بعدها بخمسة عشر عاما ً .
لأول مرة تخرج الجملة المعتادة الموروثة من فمه ولا يتذكر معها والده.. بل طغى على تفكيره ما أخبره به رفيق عمره وصديقه المقرب جورج صليبا .
حاسب يا مينا على نفسك .
حاسب على مراتك وولادك .
أنت وعيلتك مهددين يا مينا .
الجديد في التهديد ده .. أن البلطجية الارهابيين اشتروا ذمة الحارس وضموه لصفوفهم .
احذر من حارس الكنيسة يا مينا .
محمد سلام راح سوهاج واتفق مع الأشرار على قتلك وقتل أولادك .
جلس مينا خاشعا ً بين يدي القس .
يا أبونا لازم تشوف حارس تاني .
دا عاوز يقتلني .
هيقتل ولادى يا أبونا .
الأشرار في سوهاج اتفقوا مع الحارس عليا وعلى عيلتى وأولادي .
أنا خايف يا أبونا .
لازم تشوف حارس جديد للكنيسة يا أبونا .
إنه عيد الميلاد.. يرتدى عزت وشيرين في فرح ثيابهما الجديدة ويتأنقان استعدادا ً لحضور القداس مع والديهما .
تتزاحم الغيوم في سماء المدينة الشاحبة.. ويتردد في أجوائها الباردة صدى أصوات الطيور السوداء .
يسأل عزت والده عن حارس الكنيسة .
جدى ميخائيل قبل ما يموت كلمني كتير عن عم محمد يا بابا .
وقالى أنه بلدياتنا من سوهاج .
ووصانى ...
وضع مينا يده على فم ابنه في ارتباك وعنف .
ما تسمعش كلام جدك يا عزت .
إحنا مش لازم نثق في حد .
الكلام ده كان زمان .
والزمن بيتغير.. والناس بتتغير .
إحنا مهددين يا بني .. ولازم نصحي كويس وندافع عن نفسنا .
لازم ندافع عن نفسنا وعن وجودنا .. وندافع عن الكنيسة ونحميها .
فاهمنى يا عزت .
يستقبل عم محمد سلام الوفود المحتفلة بعيد الميلاد بابتسامته المعهودة.. واقفا ً في ثبات وشموخ بسلاحه الميرى على باب الكنيسة .
تعال يا مينا يا ابني
ضغط مينا على كفى ابنه وابنته وحوط على زوجته بجسده عندما ناداه واستوقفه حارس الكنيسة .
تقدم عم محمد سلام بثبات وابتسامة لا تفارق وجهه من عائلة مينا ميخائيل رءوف .
داعب شيرين وعزت .. نظر إلى عيني مينا المذعورتين بشفقة ورحب بزوجته.
مالك يا مينا .. متغير من ناحيتي ليه من فترة ؟
أنا لا سمح الله يا بني زعلتك في حاجة ؟
صرخ مينا بأعلى صوته : أبوووونا .
عندما رأى محمد سلام يتناول سلاحه الميرى وينزله من على كتفه ليستقر بين يديه .
يفترش مينا الأرض فاردا جسده على أولاده وزوجته .
فزع مينا من الدماء المتطايرة من جسد عم محمد سلام عليه وعلى زوجته وأولاده .. وانتفض واقفا عندما رآه يتبادل النار مع مسلحين في الجهة المقابلة من الكنيسة وهو مصاب بعد أن اخترقه الرصاص .
فر الملثمون هاربين.. وحمل مينا بشغف وشفقة عم محمد سلام على يديه .
قوم .. قوم يا عزت يا بني على أقرب مستشفى
لازم ننقذ عم محمد سلام ..
كان دم محمد سلام يتساقط على الأرض وقد ارتوت به يدا مينا وتلونت به ثيابه ، وظل عم محمد يردد .. مصيرنا واحد ، ولم يستسلم لأيدى الأطباء الا بعد أن أحضروا له سلاحه .