أحلام مستحيلة
صحا سكان الحي ذات يوم ليجدوا عربة بوكس جديدة أمام منزل عم سعيد وما هي إلا لحظات حتى تجمهر الناس بالمنطقة أمام منزل العم سعيد وبدأوا يلغطون،.. بعضهم جاء بدافع الفضول ، وأكثرهم جاء بعد أن سمع بالخبر من أحد الجيران أو من أسـرته كنصر الدين الذي لم يصدًق والده وهو يزف له خبر العم سعيد والعربة الجديدة !!، كان يقول في نفسـه أن والده الذي أعيته الحيلة في إقناعه بالبحث عن عمل له ، فكـما هو معروف عن نصر الدين لا يهزم بالحجة ولا المنطق .
وذات مرة فكًر والده في حيلة ذكية، .. أيقظـه وقال له:-
أصحى ياولدي، ألم أقل لك إن الله يرسل ملكاً ليسأل عباده باكراً فيقول:- هل من طالب رزق فأعطيه؟. فإن كان هناك من داع أجابه فلا يجد من ٍأحد لأن الناس نيام ! ، ..اليوم وجد جارنا إسماعيل كيساً من النقود مملوء بالأوراق المالية فئة الخمسين جنيهاً . وكان يعرف عن إسماعيل أنه ينام مبكراً ويستيقظ قبل شروق الشمس عملاً بالحكمـة القائلة (نم مبكراً واستيقظ مع العصافير)، ... يصلي الفجر حاضراً ، وهو شخص محبوب ، يعرف كيف يصطاد رزقه كلاعب كرة ما هر وقناص، يعرف كيف يقتنص الكرات السهلة فيصطادها دون أن يبذل كثير عناء. وها هو يكسب كيساً من النقود مملوء من فئة الخمسين وكل ذلك لأنه استيقظ باكراً ؟! فما كان من نصر الدين إلا وجذب فوقه الغطـاء قائلاً لوالده :- بالتأكيد سقط من شخص ،استيقظ أبكر منه!!!!!
لكنه جاء اليوم وفي هذه المرة بدافع الفضول وللتأكًد بنفسه وتكذيب والده ولن يخسر شيئاً ، فبيت عدم سعيد لا يبعد كثيراً عن دارهم ، لكنه فوجئ ،كما الآخرين بعربة البوكس؟ ، وحين مسح عليها بباطن كفـه إنثالت ذرات التراب الناعمة كاشفـة عن لمعة المعدن الدافئ ، ويبدو أنها سارت زمناً طويلاً وربما طيلة ليلة البارحـة على طرق ترابية تركت في يده أثراً من دفء حرارة غطاء المكنة فانطلقتعلى إثره أجهـزة الإنزار دفعـة واحدة فأدهش ذلك الجميع وخاصةً الصغار منهم! ، إذاً فالأمر حقيقة لا كما ظـنه الشباب مزحة سخيفة دبرها الأهل للسخرية والهزء. تجمهر الأطفال وفي براءة وكرروا جس معدن العربة للتأكد من أن ذكاء الصانع وصاحب العربة سيكشف السارق إن جاء ليلاً لسرقتها ويفضح أمره . أخيراً خرج لهم طارق ابن سعيد البكر مفتاح العربة الصغير ومن مسافة معقولة أطفا أجهـزة الإنذار فزادت دهشة الناس ولم تنتهي كما كان يأمل بذلك طارق .
تناقلت النسوة في الحي الخبر وزدن عليه إن طارقاً اشترى عمارة من عدة طوابق في الخرطوم وينوي نقل أسرته إليها ثم أردفن إن طارقاً وأهله قضوا ليلة البارحة وهم يحفرون حفرة أخفوا فيها كمية كبيرة من سبائك الذهب بلغ وزنها عدة أرطال !!. ّ وقال قائل إنهم بصدد إجراء عملية القلب لوالدهم عم سعيد في الأردن. قال آخر ألمانيا وليس الأردن . كما دعا أحدهم ربه أن يجود عليه يمثل ما جاد به علي العم سعيد وأبناءه، قال آخر:- ولد عم النور والذي كانت أخباره مقطوعة منذ سـفره قبل بضعة أشهر، إذ به فجأة يرسل مبلغاً من المال يطلب عقد قرانه علي خطيبته والتي ظلت مخطوبة له منذ ثلاثة أعوام وشيكاً بمبلغ مليون جنيهاً لتجهيز الدار بشكل يليق بالفرح القريب، كذلك وصلت أنباء غير موثوق في صحتها إن آل حبان وهم من العبابدة الذين سكنوا البلدة قريباً وجدوا عرقاً من الذهب في أحد الأودية وهو خيط من الذهب يشبه سريان الماء في التربة وسط الصخور، واستأجروا طاحونة لسحن الصخر حتى ملأوا أجولة كثيرة بتراب الذهب ويقومون بغربلة دقيق الصخر وغسلة ثم خلطـة بالزئبق الفضي لتجميع الذهب ثم فصله ، وأن أكبرهم – عثمان- إشترى عمارة في الخرطـوم بموقع ممتاز تجاوز سعرها العشرة مليارات وهو مبلغ لا يعرف الكثيرون كم يساوي ولا حتى كم عدد أصفاره، وأن إخوتهم الصغار يجمعون أطرافهم لمغادرة البلدة نهائياً . كما طلبوا من أخوهم الأكبر العودة نهائياً من أمريكا وتطليق زوجته الأمريكية . في الأيام التالية ظهرت أجهزة كثيرة لكشف الذهب وبأنواع متعدة منها !!! ، ...أمريكية ...وهولندية ...ويابانية وظهرسماسرة ومروجون لكل نوع ، قال بعض السماسرة أن الأجهزة الأمريكية تتعرف علي معدن الذهب وأنواعه ومساحته وتحدد مساحته وحجمه في الأرض والعمق ومن مسافة بعيدة مستخدمة تقنيه الأقمار الإصطناعية ، وأن لكل منها مؤشـر بثلاثة ألوان ، أصفر وبرتقالي وأحمر والأحمر لأجود أنواع الذهب عيار 24 قيراط ، وقال بعضهم إن الأجهـزة الهولندية هي الأجود ، لأن هولندا تملك خرائط طبوغرافية لكل معادن الكرة الأرضية وبه آلة حاسبة تعطيك قيمة الذهب فوراً ، كما تحدد كل أنواع المـعادن وأماكن تواجدها في الأرض وأضافوا أن بعض المنقبين كانوا يستخدمون جهازاً هولندياً ولم يكونوا على علم بتفاصيله أو معرفة أن اللون الفضي هو لمعدن اليورانيوم المشع فأصابهم السرطان كما عرفوا لاحقاً من تقرير مركز أبحاث الطاقة الذرية . أخيراً وصلت إنباء تقول أن بعض الإخوة وهم تجار معروفون وأسرهم متخصصـة في صياغة وصناعة الذهب بمنطقة العبيدية يقال لهم أولاد حاج التوم وفي أقل من شهرين باعوا ذهباً من عيار 24 الصافي بأكثر من ستين مليوناً واستلموا المبلغ نقداً عدا واشتروا جهازاً أمريكياً وعادوا من حيث أتوا يضربون في الصحراء ، كما تناقل الشباب قصة (الخرابة المسكونة) وهي قطعـة أرض مبنية بالطوب والأسمنت يسكنها جان يرمي الناس بالحجارة منتصف النهار ويشعل النار في أمتعتهم وملابسهم ، وبالليل ويسمعون صوت قطار ويرون عرباته تقف فيخرج منها الركاب المسافرون طيلة عشرة أعوام لذا هجرها كل من سكنها ونفد بجلده ولم يك أحداً يدري إن عباساً (الخمـلة) كما يسمونه لكسله وتبطله عن العمل هو من كان يقذف الناس بالحجارة ليجعلها وكراً له وكان يرغب في شرائها بثمن بخس في يوم ما ، اشتراها أحد الشباب العائدين من الذهب وهو غريب يقال أنه من منطقة البطانة لا يعرف أنها مسكونة ،... أغراه سعرها المنخفض فقرر نقل أهله من القرية إليها .
تجمًع شباب الحي في مجموعات غيرمتناسقة ،.. العاطلون والخاملون المهددين والذين تضرروا بشكل أكبر فعمدوا علي تكذيب خبر العربة البوكس وقالوا أنها مستأجرة من مركز تأجير للسيارات ، كما اتفقوا سراً علي تحطيمها أو حرقها في أقرب وقت وفرصة . ومجموعة الطلاب وأغلبهـم من طلبة المدارس الثانوية وهم الأقرب لشلة العاطلين سناً وتفكيراً وأغلبهم شارف سن العاطلين أو كاد وكانوا يمهدون لإقناع أهلهم بعدم جـدوى التعليم حتى كادوا يقنعونهم . أما الآن وقد ظهر الذهب حقيقة لا مراء فيها فقد باتت تلاحقهم كوابيس جديدة بعد أن كادوا يقنعون أهلهم بقرب الوقت الذي يركنون فيه لدٍعة العيش متسكعين في أرجاء الحي كالكلاب الضالة والعجوزة التي أفنت عمرها في النباح ولم يعد أحداً يهتم لها أويكلفها بشيء ولم تعد هي قادرة عليه ، فقط كانت عربة البوكس وحمى الذهب قد دهمت منطقة الأحلام المحظورة وقضت علي كل شيء بل وحرًضت الأهل عليهم ، الكومـة الأكبر والتي انقلبت رأساً علي عقب كانت كومـة كبار السن، صار العم سعيد أهًم شخص فيها بعد وصول عربة البوكس، بعد أن كان لا يحفل به أحد ، أصبح محطً الأنظار ومركز الإعجاب أينما حلً وحطً ، ...يأمر فيطاع ، ينادي :- يا ولد ، فيجئ إليه كل الأولاد بعد أن كانوا يجتنبون مرسالة لهم ويتهربون منه!!! ، أصبح أهم شخصية في الحي ومصدر القوة الجديدة التي إفتقدها رئيس الحي ورئيس اللجنة الشعبية ، صار الراوية الموثوق قوله ، فما عليك إن أردت أن يصدقك الناس إلا أن تنسب القول للعم سعيد!!! ، أما كـومه الصغار والأطفال فقد كانت أسعد المجموعات بالذي حدث ، صاروا يتحدثون بفرح غامر عن الأشياء الجديدة والمبهرة التي دخلت حيًهم لأول مرة ك(الريموت) وأجهـزة الأنذار الأتوماتيكية وبعد أن كان كمال يصفهـم بالتخلًف ويتندًر عليهم إذ يقول حسب زعـمه أن أول عربة دخلت حيًهم جاءؤوها كباراًِ وصغاراً وجلسوا حولها متحلًقين بعد أن وضعوا أمامها كمية من البرسيم بإنتظار أن تفتح فمها لتأكل منه حتى تشبع ّ! ، وظلوا حولها ينتظرون طوال اليوم ! . لو أنه جاء اليوم لضحكوا هم عليه بعد أن سبقوه للتكنولوجيا وليس ذلك بغريب فالأمريكي أدهشته الوردة الراقصة التي صنعها اليابانيون الذين ضربهم بالقنبلة الذرية !! .بل الغريب في الأمر أن سعاد الفتاة الجامعية التي رفضت طارق ذات يوم لضعف مستواه التعليمي ولأنه خريج ثانوي وهي فتاة جامعية أطلقت إشاعة خطبتها من مغترب كي تستعيد مكانتها عند طارق لعلة يعيد النظر والكرًة مرة أخرى ، كما تفعل أغلب الفتيات في مثل هذه الظروف . لكن طارقاً كان قد تجاوز سعاد والبلدة بأثرها بأحلامه التي كبرت آلاف المرات فقامت سعاد هذه المرة بتسجيل نفسها كطالبة ماجستير ولم يجد الأمر أيضاً نفعاً ّمع طارق !، ..تحوًل لعب الصغار من لعبة (أم الحفر ) إلي ( لعبة الذهب !!) ،أصبحوا يأتون بأجزاء اللعب الداخلية فيمررونها فوق التراب وكأنها أجهزة للكشف عن الذهب ، يصيح أحدهم بأعلى صوته ليسبق الآخرين :-
اشتريت وبأعلى سعر.
فتتم المبايعة بأوراق بيضاء أو بأوراق الحلوى وكأنها نقود حقيقية ! ثمً يجيئ أحدهم بشاحنة اشتراها بواحد (كنج) ويقصد به مليار! وهو رقم لا يعرفه أهلهم الكبار وكم يساوي؟!
كان الطفل أسامـة أكثر الأطفال مكراً ودهاءاًَ ، يدفن علب السجائر البنسون ويستخرجها من التراب وكأنها سبائك ذهب حقيقية ، كما ظل يتزوج طفلات الحي ويطلًقهم وليس بمقدور أحداهن القبول أو الرفض لأن زمن ومسافة زواجه منها وطلاقها منه لن يستمر سوى بضع دقائق تقضيها بين الدهشـة والفرح الطفولي بزواجها منه ، ... فالحياة عنده لحظات ودقائق لكن أغرب ما في الأمر للذين عرفوا أسامـة أنه ظل يمارس الحياة وكأنها امتداد لطفولته ذاتها ، صار يتزوج ويطلق النساء كما يشاهد المرء فيلماً شاهده من قبل !!. جن جنون الشباب بعد ظهور الذهب, .. صارتت أغاني البنات تغني للذهب أما فرسان الأغاني فصاروا مكتشفوا الذهب ، وانحسرت الأضواء عن المغتربون والتجار ولم تعد أحلام الشباب محصورة في الذهب كسلعة ٍولكن في كميته بالكيلوهات والأرطال ، رغم أن البعض ظلت أحلامهم صغيرة لم تتجاوز أوقات اللعب واللهو ، ولم يكبروا حتى في أحلامهم لكن البعض منهم كان قد تجاوز البلدة والقطركله بأحلامه الذهبية !!!!
ذات مرة قرر نصر الدين المجازفة ولمرة واحدة فقط في حياته، قرر أن يتجاوز كل شيء وبكل ما يملك ، فإمًا .. وإمًا ، ولم يصدًق أبوه ما سمع حتى فقرر أن يدعمه بكل ما يملك حتى لا يغيًر رأيه وهو الذي خلق كل الحيل ليزج به دفعة واحدة في خضم الحياة ويضعه في الصف الأول لأول وأخر مرة في حياتة ، وبشعور داخلي وإحساس بالذنب لأنه شـجًعه علي عدم العمل والركون للكسل فقرر أن يدفعـه في الاتجاه الصحيح هذه المرة ، لذا أعطاه مبلغاً من المال كان قد أدًخره للأيام القاسية المتوقعـة مستقبلاً واشترى له موبايلاً للاتصال به والاطمئنان عليه ، ...إتصل بهم في اليوم الأول لسفره ليلاًِ فزغردت أمه وأخواته فرحاًَ ،... في اليوم الثاني لم تصلهم مكالمة لأنهم كانوا خارج نطاق خدمـة الشبكة ، وفي اليوم الثالث كانوا قد وصلوا منطقة العبيدية ثم تجاوزوها متجهين باتجاه الشمال الغربي وامتد الأفق أمامهم منفتحاً بلا نهاية وباستمرار بلاحدود تحده ، ...فجأة حين صعدت العربة أحد التلال الرملية إذ بالموبايل يرن ، كان والده يجالس بدوياً من قبائل الصحراء الذي يعرفون كل حبة رمل ونسبها كما يعرف الإنسان راحـة يده . سال الوالد الشيخ البدوي عن المنطقة ،قال الشيخ البدوي :-
إسألهم أن يصفوا لك شكل العشـبة وزهرتها .
ولما سمع الشيخ أوصاف العشبة من الوالد الذي أعلموه بضياعهم في الصحراء ، قال الشيخ البدوي للرجل طمئنهم أنهم بخير وخلال ساعتين سيصلون ضفة النهر.
لكنه وبعد أن أقفل الرجل الموبايل سأل الشيخ البدوي مرة أخرى طالباً منه أن يطمئنه عليهم .
قال البدوي :- - وهو لا يدري أن الرجل هو والد أحدهم واسمه نصر الدين– ، قال في هدوءكأنه يقرأ الخبر في جريدة :- الله يرحمـهم جميعاً.
بقلم : فائز حسن العوض