سرب الحمام
"يطيرُ الحمام ، يحطّ الحمامُ " في حركات دائرية لم يَنتبه لها سكّان المكان، حتى بدأت القطّة تموء بصوت يختلف عن ذاك الصوت الذي اعتاد أهل الحي سماعه، ثم بدأت تدور أمام عتبة البيت ذي الباب الخشبيّ المهترئ، وكأنها تشارك السّرب في دورانه.
لفتَ الصوتُ والحركات نظر " أحمد "، جار "الحاجّة" التي تسكن البيت، وأحسّ أن في مركز الدائرتين العلويّة والسفليّة أمرا ما.
قرّر الاقتراب من باب البيت، فضاعفت القطّة حركات دورانها وتضاعف معها خفقان قلبه، عندما نظر إلى وعاء الطعام الذي اعتادت "الحاجة" تعبئته، تزامنا مع موعد ذهابه إلى عمله، وإيابه منه. فوجده فارغا، كذلك لم يرَ حبوب القمح، والعدس، والسّمسم مبذورة في ساحة البيت، حيث اعتادَ الحمام الذي يحلّق الآن فوق السطح، التقاط هذه الحبوب - والقطّة تراقبه دون مبالاة - ليتجمّع بعد ذلك حول جرن الماء القابع وسط صحن الدار، قرب البئر. ألقى نظرة على الجرن فوجد ماءه قد جفّ.. غزت الشكوك أفكاره إثر هذه المشاهد، وازداد قلقه عندما لمح شعاع شمس الغروب قد اخترق البيت، عبر شقّ دفتي الباب ولم يشعر بأي أثر لحركة في الداخل.
تسمَّرَ في مكانه ولم يدرِ أيقدمُ ليستوضح الأمرَ أم يحجمُ؟!
اثناء وجومه سيطر على مسامعه صدى أحاديث "الحاجّة" التي زارها آخر مرة ليلة العيد، قبل أسبوع من الآن. وكان قد اعتاد زيارتها كلّ ليلة جمعة ليأنس بحكاياتها الخرافيّة، وحكاياتها الواقعيّة المشبعة بهموم شعبها وهمومها. إلا أنّها كثّفت حكاياتها ليلة العيد، لأنّ عدد الزوار كان أكثر من المعتاد..
تذكر بشرتها السّمراء الجافّة وملامح وجهها التي عقدت قرانها على البؤس والشقاء، حافرةً أتلاماً من التّجاعيد، وغارسة فيها شتلات التّعب والإعياء. وتذكر محتويات أتلام ذاكرتها، التي نكَشتها تلك الليلة،واقتلعت جذور مزروعاتها لتعتصر منها سائل مرارة الغربة، المحتقن داخل تلك الجذور، ولتسيحه أمامه أثناء أحاديثها،أملا في إبداله بَعَسل أيام العودة إلى الوطن.. الوطن الذي غادرته مع ابنتها عقب نكبة فلسطين بعامين؛ هربا من ظلم وطمع ذوي القربى في الزّواج من ابنتها، عقب مقتل زوجها، وعادت إليه وحيدة، إلّا من جعبة المرارات التي ذاقتها سنوات طويلة، مقرورةً من برد الاغتراب تارة، ومحمومةً من حرّ الحنين للوطن طوراً.
عادت إلى الوطن في التّسعينات؛ لتجد البيت العتيق الذي تركته قد أصبح أوكاراً للفئران وأعشاشا للحمام وعصافير الدّوري، فوجدت ألفة وأُنساً بين أعشاش همومها وأعشاش الحمام الملآى بالبيض والأفراخ التي تذكّرها منذ عودتها، بطعم رحيق الحنين الذي ارتشفته وقت عبور جسر "الشيخ حسين"، عندما شاهدت زوجاً من الحمام الرّاقد على نافذة غرفة التفتيش، حيث أثار فيها المشهد تفاؤلا لا تعلم سببه.
وتوطدت العلاقة بينها وبين سكان المكان، الذي انتزعت حقّ الرجوع إليه من السّلطات التي أغلقته. ولم تسمح منذ وصولها للجيران بالاقتراب من الأفراخ - مثلما اعتادوا سابقاً - ومهاجمة الأعشاش، والسّطو على " الزّغاليل" لطَبخ حساء " الفريكة" على لحومها.
ها هو السَرب يحلّق فزعا فوقه ولا يدري لَفزعِه سبباً، ولا يرى "الحاجّة" كي تسعفه وتشبع تساؤلاته ، وأثناء دوران شريط الصّور والذّكريات الذي استحضره وقوفه أمام البيت وأصحابه.. أذهله أن تمسك القطّة طرف سِرباله وكأنَها تجرّه نحو الدّاخل، فاستجمع قواه وفتح مصراع الباب، وصوته ينادي " الحاجّة " ولكن لا مجيب. قرّر الدّخول إلى غرفة نومها فأحسَّ أنَّ سائلا ما تحت حذائه كاد يتسبب في انزلاق رجله.. تتّبع مسار السّائل حتى وصل المنبع، فإذا بمعول الجشع الماديّ، الذي هربت منه الحاجّة قبل عقود، ملقى إلى جانبها، وقد نكش لها أتلام الجمجمة والدّماغ والذّكريات طمعا ببعض الدّريهمات!
وإذا بعلقم الغربة وبلسم الوطن، الذي دخلت لتصنيعه مختبرات متعدّدة،يختلطان ليكوّنا سائلاً مميّزا، يسحّ ويزيد من رطوبة ثرى البيت الذي رطَّبته دموع فرح العودة!