قراءة في قصة " سجية " للكاتبة ربيحة الرفاعي
النص الأصلي
سَـــــجـيـّة
تَمَايَلتْ بِدَلالٍ عِندَ حَافَّةِ المَركِبِ، تُغازِلُهَا عَينَاهُ بَيْنمَا تَكْشِفُ عَضَلَةُ فَكِّهِ المُتَقَلِّصَةِ إنزِعَاجًا مِن مُحَادِثَتِهِ عَلَى الطَّرَفِ الآخَرِ مِن خَطِّ الاتِّصَالِ الخَليَوِّي، اقتَرَبَت مِنهُ وَمَالَت بِرَأسِهَا عَلَى كَتِفِهِ تَتَأمل البَحْرَ أمَامَهُمَا يَمْخُرُ عُبَابَهُ مَركِبُهُمَا الجَمِيلِ وَهُو يَقُولُ مُتَبَرِّمًا يُنْهِي المُكَالَمَة:
- أيُّ غَدَاءْ! جَاؤُونِي بِشَطِيرةٍ مَا زَالَتْ أَمَامِي مُنْذُ سَاعَتَيْنِ، لَم أَجِدْ فُرْصَةً لِتَنَاولِهَا بَعْد ... قُلتُ لَكِ مَشْغُولْ..مَشْغُول، أَأَترُكُ عَمَلِي لآتِيكِ؟
وَبِذَاتِ الدَّلالِ وَضَعَتْ فِي فِيهِ قِطْعَةً مِن حَبَّةِ الدُّرَّاقِ التَقَطَهَا وَأَطرَافَ أَنَامِلِهَا مُدَاعِبًا، لِيَغرَقَا فِي مَوْجَةٍ مِن الضَّحِكِ، نَسِيَ مَعَهَا تَشَنُّجَهُ مِنْ مُكَالَمَةٍ انْتَهَت، وَغَابَا فِي جَلْسَةٍ هَانِئَةٍ عَلَى حَافَّةِ المَركِبِ تَتَغَنّى بِشَقِّهِ المَاءَ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَخَرِيرُهُ تَحتَهُ مُوسِيقَى تُرَافِقُ صَوْتَهُ يَرْسُمُ لَهَا جَنَّةً سَتَدخُلها بِزَوَاجِهِمَا.
رَفَعَتْ بِتَنْهِيدَةٍ وَلْهَى رَأسَهَا المُلْقَى عَلى ظَهْرِ المَقعَدِ عَائِدَةً لِلوَاقِعِ مِن ذِكرَيَاتٍ تَستَعِيدُهَا بِحَنِين، وَتَفَقَّدَتِ المَائِدَةَ أَمَامَهَا مَفْرُوشَةً بِمَا لَذّ، تَزِينُهُ بَاقَةُ وَرْدٍ وَشَمعَدَان أَهدَاهُ إلَيْهَا قَبلَ زَوَاجِهِمَا، تَحَسَّسَتهُ بِأصَابِعَ مُرْتَعِشَةٍ انحَدَرَت عَلَى تَعَارِيجِهِ نَحْوَ هَاتِفِهَا الخَليَوي، تَنَاوَلَتهُ تَتَأَمَّلُ صُورَتَهُ عَلَى الشَّاشَةِ الكَبِيرَةِ بِضَحكَتِهِ السَّاحِرَة،وتَتَذكُرُ يَومَ التَقَطَتْ لَهُ تِلكَ الصُّورَةَ عِندَمَا انفَجَرَ ضَاحِكًا لِشَكلِهَا فِي سُترَتِهِ الضَّخمَةِ الَّتِي خَلَعَهَا لِيَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيهَا تُدفِئُهَا مِن نَسْمَةِ بَردٍ فِي رِحلَةٍ رَبِيعِيَّةٍ.
"اشتَقْتُ لِضَحْكَتِكَ الغَالِيَةِ حَبِيبِي" فَكَّرَت بِشَوقٍ وَضَغَطَت الأَرقَامَ تَطلُبُهُ فَجَاءَ الصَّوتُ الحَبِيبُ مُغَرِّدًا
- حَيَاتِي
- تَأَخَّرتَ حَبِيبِي، أَعَدْتُ تَسخِينَ الطَّعَامِ مَرّتَين.
- سَامِحِينِي يَا غَالِيَة ، مَشْغُولْ.
- أَلَن تَأتِي لِتَنَاوِلِ الغَدَاءِ مَعِي؟
- مَشغُولٌ أُقْسِمُ، لَا أَستَطِيعُ حَتّى تَنَاوُلَ شَطِيرَةٍ، سَامِحِينِي.
مَسَحَت بِطَرَفِ إِصْبَعِهَا دَمْعَةً سَالَتْ عَلَى وَجْنَتِهَا بَينَمَا يَتَسَلَلُ لِأُذنِهَا عَبرَ سَمَّاعَةِ الهَاتِفِ صَوْتُ خَرِيرِ المَاءِ تَحتَ المَركِبِ.
القصة القصيرة حقل لا أولَ له ولا آخر للتجارب الناضجة والغريبة ، ومعرض صور وبورتريهات آلاف الشخصيات التى تلعب بوعى وبدون وعى وبعلم وجهل وطهر ونزق وادراك وغباء فى ميادين وساحات الخير والشر والجريمة والخيانة والوفاء والبر والعطاء والعقوق والجحود والتسامح والغفران والخداع والتلون والفساد والعفة .. الخ .
الواقع بحلوه ومره وخيره وشره ليس من ابتكار الأديب انما هو خلق المبدع الأكبر جل فى علاه وتسامتْ حكمته ، وما يفعله القاص أنه يُعيد تشكيل هذا الواقع على الورق فى صورة مختزلة هو صاحبُ ابتكارها واقتناصها وتأملها وصياغتها بشكل يُعرى الشخصية الشريرة الخائنة ويفضحها وينفر المتلقى منها ، وفى المقابل يضع الشخصية الخيرة فى المكانة التى تستحق من التكريم والتعاطف .
فى هذه القصة للأديبة الكبيرة ربيحة الرفاعى نقف قبالة احدى الصور التى تذخر بها الانسانية المعذبة بأهلها ؛ ويرقى الكاتب ويحجز مكانه سريعاً فى قلوب الناس كلما استمد صوره وقضاياه من تجارب الحياة ومن دقائقها ومتناقضاتها ومآسيها .
ويبرع الكاتب كلما كان تصويره حاداً شرساً مُفجعاً جارحاً ، يقفز كقفزات الحياة وغدراتها ليضرب وجه الانسانية بعنف وغضب ، علها تفيق من غيها ، وتخلع أقنعة الزيف والتلون والكذب والخداع .
انها سجية الحياة كما خلقها الله تعالى ؛ مجنونة بما فيها من شرور ونفوس لا تشبع ولا ترتوى من الخيانة ، وبناسها الذين احترفوا الكذب ، فلم يعد شذوذاً وعيباً انما أصبحَ سجية .
ابتكار الصورة هنا لا ينتهى عند هذا الحد بنقل واختزال ملايين قصص الخداع والخيانة بين البشر بزحف جماعى نحو الخيانات يكرس فى الوعى ويؤرخ للانسان ككائن خائن فيما عدا صفحات قليلة على استحياء من الصدق والوفاء .
انما تجاوز الابتكار الى الدقة فى نقل التلون الاحترافى ما بين الضحك والفرفشة والتبسط والنغنغة مع الأخرى على المركب فوق البحر الذى لا أمان له – واختيار المكان كان دقيقاً برعت الكاتبة فيه - ، وفى ذات الوقت الجدية والصرامة والشخط والنطر مع الزوجة المكلومة فى مشاعرها ، بشكل لا يتقنه الا من تمرس على هذا التلون مراراً لسنوات طويلة حتى صارَ سجية عنده .
كثير من السجايا المريضة فى البنى آدم رصدتها الكاتبة المبدعة فى هذه القصة الى جانب الكذب والخيانة والخداع والتمرد والجحود .
وكما نتتبعُ بمزيد من اهتمام مسيرَ الرجل الخائن ودرامية علاقته مع الاثنتين ، فهناك أيضاً المرأة الخائنة على الجهة المقابلة ، وما كثرت الخيانات الا بتوفر عدد لا حصر له من النساء البديلات اللاتى يعرضن أنفسهن ومواهبهن الأنثوية كتجربة ثانية باغواء ودلال زائد حتى صارَ سجية فى قطاع لا يُستهان به فى مجتمع المرأة .
هناك النهم والطمع والجحود ، واذا استكثرنا الخيانة من الرجل لزوجته ، فماذا نقول فى خيانة امرأة لزوجها فى تبادلية صارت فى بعض المجتمعات العربية ظاهرة ، ولو لم تصل بعد الى مستوى " السجية " كما فى المجتمعات الغربية .
على الجانب الآخر هى خائفة عليه ، يشغلها هل تناول غداءه أم لا ! ويقسم هو بانشغاله الذى يعوقه عن تناول شطيرة ، وهو فى الحقيقة منشغل بما يغرقه فيما طاب لنفسه الشريرة من همسات ولمسات ولذائذ الفاكهة والحلوى واللهو الحرام .
هل هذا هو الانسان ، وهل هذه هى سجيته ؟
الطبيعى والمعتاد أن يكون مع زوجته وبما أعدته من ذكريات وطعام وحب كامل الدسم والشهية ، فهناك السعادة الحقيقية والاطمئنان النفسى ، لكن سجية الانسان صارت كسر المألوف والمعتاد والخروج عن طبائع الأشياء وسنن الكون .
فى اكتشاف الخيانة تجاوز غير معهود ؛ فمن يقدم على مغامرة محدودة حذراً مشفقاً على نفسه وسرعان ما يعود مستغفراً غالباً ما يستره الله ولا يكشف سره ويستره بستره .
وفى اكتشاف الزوجة للخيانة من مفارقة الرحلة البحرية النزقة ، دليل على أن الانحراف فى نفس بطل القصة ليس طارئاً أو هامشياً ، انما سجية .