الرئيس السادات لم يصدق ما طرحه الزعيم عبد الناصر - الذى كان على وعى بالصراع على السلطة - فقد وضعَ مجلس قيادة الثورة بين اختيارين ؛ اما الحكم بالديمقراطية ، أو الديكتاتورية .
اعتقد العسكريون أن الديمقراطية أضرت بالبلاد ، وأن صراعات الأحزاب أسهمت فى تأخر نهضتها ، فى مقابل ما يميز الضباط من همة وصرامة وسرعة انجاز لاصلاح البلاد فى أسرع وقت – بحسب تصورهم - .
المدهش - وفق شهادة السادات - أن عبد الناصر رفض طريق الديكتاتورية ووصفه بطريق الدم ، وقال ان العمل الذى يبدأ بدم لابد أن ينتهى بدم ، وأنه يفضل اعادة البرلمان والحزبية وتسليم مقاليد الأمور للأحزاب .
المفاجأة كان فى التصويت ؛ فكان سبعة ضباط لصالح الديكتاتورية ضد صوت واحد فقط كان مع الديمقراطية هو صوت عبد الناصر نفسه !
تلك خارطة ؛ فبديل التعددية هو صناعة الزعيم ، مع النجاح فى اقناع القوى والشخصيات الحالمة بالديمقراطية – حتى العسكريين منهم – بالتخلى عن الحلم أو اجبارهم على ذلك .
حالة عبد الناصر - على مستوى صناعة الزعيم لتعويض التعددية الحقيقية وليست الديكورية – من الصعب القياس عليها ؛ فتلك تجربة محكومة بعصرها ، وربما لو وُجد عبد الناصر اليوم بشحمه ولحمه الآن لوجدَ صعوبة فى تحقيق ربع النجومية التى حظى بها فى الخمسينات والستينات .
جزء كبير من زعامة عبد الناصر ونجوميته صنعها من اشتراكيته ودعمه للفقراء ، والزعامة التى يُراد صناعتها اليوم ممثلة فى الفريق السيسى جانحة للرأسمالية ، ولم نعثر على هذا المنحى فى التسريبات فقط ، انما من اعتماده على حكومة متوحشة فى رأسماليتها ، يترأسها رأسمالى بامتياز ، ولازالت زعامة الفريق السيسى الى اليوم محصورة فى النخبة والاعلام ولم تدخل بعد اختبارَها الجماهيرى .
بالرغم من نجاحات عبد الناصر فى تحقيق الزعامة بديلاً عن التعددية والحزبية ، وقد حاز اعجاب ورضا الأغلبية الساحقة ، بحيث يصعب حشد مظاهر السخط ضده وتحقيقها نتائج مؤثرة ، ورغم الأهوال التى تعرض لها الاخوان واعدام عدد من قادتهم فقد عادوا للانتقام منه ، كما تم الكشف عن عدد من التنظيمات اليسارية ومحاولات الانقلاب ، أى أن " الارهاب " المصاحب لصناعة النجم الأوحد لم يئد حركة الرفض وظلت تقاوم .
بل تراجع الزعيم أمام انفجار الشارع فى مظاهرات فبراير 68م بعد صدور الأحكام الهزلية فى قضية القادة المسئولين عن نكسة يونيو ، وسقط فيها عشرات القتلى .
وظلت القضية تؤرق الزعيم حتى اللحظة الأخيرة فى حياته بعد اجتهاده فى التخلص من الحالمين بالديمقراطية – حتى رفاقه وأصدقاءه منهم – مع حلمه فى تحقيق نهضة بلده ومشروعه الكبير من أقصر الطرق وأسرعها ، فهل أرضته الزعامة ، وهل حققت الزعامة ما لم تحققه الديمقراطية والأحزاب والحكم المدنى ؟
يعكفون الآن على صناعة زعيم ، وقد بدا لهم أنهم تخلصوا من الحزبية والتعددية – الحقيقية – ويطرح " المرشح للزعامة " خارطة المستقبل وتلمح فيها من بعيد مصطلح الديمقراطية يشتكى ظلم الزمن .
سينزل الزعيم على رأى الغالبية وربما كان صوته هو الأوحد الذى يرفض السير فى هذا الاتجاه ، ولن يرضوا بغيره رئيساً ولن تهدأ الحملة ضد التعددية – الحقيقية – والديمقراطية التى عرقلت النهضة ، وأن البلاد فى حاجة لزعيم وللسرعة والانجاز والحسم .
هم الذين يستدعون النموذج الستينى فى غيره موضعه ولست أنا ، انما أحاول اثبات أن الفارق كبير والمقارنة ظالمة ، وقد مات الزعيم هماً وكمداً بعدما انهارَ حلمه أمام عينيه .
بين التعددية والأحادية يختارون وقد حسموا أمرهم والشواهد واضحة ، لكن الروائى الشهير نجيب محفوظ له رأى آخر فى رسالة نشرها فى الأهرام بعد وفاة عبد الناصر بتاريخ 2 أكتوبر 1970م ؛ مؤكداً بعد حوار بليغ متخيل مع عبد الناصر " أن مصر لا تحتاج الى زعيم جديد لأن وجوده فى الظروف الراهنة يربك الأمور ويعطل الديمقراطية ، ذلك أن حب الناس له سوف يجعلهم يتغاضون عن أخطائه حتى ولو كان من هذه الأخطاء فرض أسلوب الرأى الواحد ووضع المعارضين فى السجون ، فمصر بحاجة الى حاكم وطنى مستنير لديه اجابة عملية واضحة عن هذا السؤال : ما هو دور مصر فى هذا النظام العالمى الجديد " .
أتيتُ برأى الأديب نجيب محفوظ فربما لا يقتنع الفريق السيسى برأيى ، ولأنه رأى كاتب كبير يناهض رأىَ كاتب كبير آخر يعتز به كثيراً قائدُ الجيش .