غصة في
القلب
تناهى إلي خبر من الجزيرة
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حين أيقظتني زوجتي من النوم، كانت تمسك الهاتف بيدها، محمرة الوجه، مكفهرة الملامح، لا تدري بماذا تجيب ولما سألتها:- " من المتكلم "؟ لم تجب بشيء، بل دفعت السماعة إلى يدي ووقفت بعيدا. الصوت القادم كان يحمل خبرا فزعت فيه بآمالي إلى الكذب، " هلال ابن أختك، هلال أعطاك عمره ". لم اسمع الجملة صحيحا، فسالت من جديد، وجاء الجواب مرة أخرى واضحا، " هلال أعطاك عمره ".
وقفت، حدقت بوجه زوجتي وأولادي، الجميع مصاب بالذهول، بالمفاجأة، بالصعقة، انحسر ظل النوم عن دماغي، فاستقرت صورة هلال في مركز العين والوعي والذاكرة، بدا لي وجهه الفياض بالحيوية والنشاط، وداهمتني ضحكته، ونفر جلدي حين أحسست بلمساته العذبة وهو يهمس برفق وحنان " خالي مأمون، أنا بموت عليك "، تحرك القلب نحو الصدى والأوم، وانبرت الروح نحو الشجن والفاجعة.
أنا الآن في أقصى الشمال الأوروبي، بيني وبين فلسطين ملايين الأميال، هنا أقف على حافة السرير، مكللا بالعجز، ملفوفا بالحيرة، غارقا بالتساؤل، وهناك، على تراب الوطن تقف أختي، إن تبقى لها حولا للوقوف، تنتحب، تبكي، تصرخ، تولول، ترمي أصواتها بجوف أثير لا يعرف كم الأسى والحسرة التي تحملها تلك الأصوات، هذا إن بقي صوت تستطيع أختي إخراجه من حنجرتها، وهناك، يقف إخوته الأربعة، يبحثون عن خبر ينفي الخبر، عن صوت يشبه صوت هلال، عن رعشة تنتمي إلى رعشاته، عن شهقة تحاكي شهقاته، عن ضحكة تنقلهم من حالة التصديق لحالة التكذيب، وهناك تقف أخته الوحيدة، تنظر إلى فجيعة أمها وإخوتها، تنظر إلى الأفق البعيد المغطى بالحزن والشجن، تبحث عن شيء، فتقع على الأرض مغشيا عليها.
أولادي وزوجتي ذهبوا إلى مدارسهم، أنا والغرفة، وسماعة الهاتف السوداء اللون، والغربة، أنا والوحدة، وخيالات المأتم المقام لشاب لم يخطو نحو العشرون إلا بسنوات ثلاث، أنا والعجز والموت والمأتم، أنا والعزاء، أنا وصورة الجنازة، أنا وصورة أختي التي تبحث بين الجموع عن صدري، عن خفقان قلبي، عن وجيب روحي، عن دفء الإخوة، عن سر كامن بين مشاعري ومشاعرها، بين حزني وحزنها، بين دموعي ودموعها، أراها وهي تدور بعينيها بين الجموع المحتشدة باحثة عن ذراعي وحضني، تلسعني النظرة وهي ترتد إلى العيون لتزيد احتقان الدم والألم والأسى.
اعد كمية كبيرة من القهوة، انظر من جديد إلى سماعة الهاتف السوداء، أخطو نحوها، أراها تنتفض انتفاضة أفعى، أتقدم قليلا، أمد يدي، فتخرج ضحكة هلال مدوية، انتفض متراجعا للخلف، أهز راسي بقوة عاتية وأحدق بالسماعة السوداء، اقترب من جديد، تتلوى السماعة، تخرج فحيحا ضاريا، تهاجمني صورة هلال وهو يفتح الدثار ليحشر جسده النحيل بحضني وهو يقول:- " حضنك دافي يا خالي "، تتحرك يدي لتمسد شعره الخرنوبي، ثم تمتد من تحت قميصه لتلامس بطنه وصدره، فاشعر بأنفاسه الرقيقة العذبة وهي تدخل قبو النوم بهدوء وسلام.
أتراجع نحو المطبخ، اسكب فنجانا كبيرا من القهوة، أشعل دخينة، أتقدم نحو الصالة، اشعر بتناقض غريب يكتسح أعماقي، تناقض مجهول، يثقل راسي، تمور نوازع غريبة في صدري، تدخل القلب غصة حارقة مؤلمة، أحدق بسماعة الهاتف السوداء بحقد أعمى، بحقد يستطيع أن يجرف هواتف العالم كلها، ترتعد مفاصلي، ترتعش أحشائي، احتسي جرعة كبيرة من القهوة، اسحب أنفاسا هائلة من الدخينة، امسك بسماعة الهاتف، أحشو الأرقام، فيصل العويل والنحيب إلي واضحا، تتداخل أصوات النساء ودموعهن وشهقاتهن، صوت متحشرج مخنوق يسأل من المتصل؟ صمت، كقبر مهجور، يتعالى صوت النحيب ويمتد ليخرج من السماعة مقتحما قلبي ونفسي، أتهاوى على الكنبة، ويأتي صوت أختي وهي تصرخ:- " يما يا هلال، يا حبيبي، يا روح قلبي يما ".
تندفع الدموع من عيني، ويحكم العجز استبداده بكل أعضائي، وصوت أختي يتسرب في أذني كحامض فتاك، النسوة توحد الله، تطالب أختي بالصبر، بالترحم على روحه، بالدعاء له، هلال مات إذن، ما كان، وما قيل، وما حدث لم يكن حلما، هلال مات إذن، أصبح مرحوما يستحق الترحم عليه والدعاء له، هلال مات قبل أن أموت أنا، قبل أن تموت أمه التي ما انفكت تدعو الله ألا يميت احد من أبنائها قبل أن تموت هي، كانت تدعو:- " يارب ما تشربني حسرة واحد منهم "، " يا رب اجعل يومي قبل يومهم " هلال مات ولا زلنا نحن أحياء، هلال تحت الأرض، ونحن فوقها، هلال مات، هل يمكنني تصديق ذلك؟
جاء صوت أخي من السماعة مجروحا، من المتصل؟ بصعوبة بالغة خرجت، أنا المأمون. صمت مطبق، البقية بحياتك، حياتك الباقية، أين أختي؟ ونادى، صبحيه، فجاءت وهي تتلعثم بالحروف والكلمات:- " حبيبك مات، حبيبك راح، يا بي يا خوي كلكم بعاد عني، محدش جنبي، آه يا حبيبي يا خوي" وأخذت تنتحب، وقعت سماعة الهاتف من يدي، واندفعت ببكاء حار، ارتفع صوت دموعي، وتهاويت كتلة من عجز مقهور.
ماذا يجري هناك؟ ومن سيصل فاتحا قلبه وروحه لتلك الأم المكلومة، لو، لو، لو، ولو، فقط لو، كانت السلاح الوحيد الذي يقتحم حنجرتي ولساني، لو، كانت كل ما املك من تبرير وسبب وقوه وانتماء، آه ما اشق العجز والقهر وفقدان الإرادة، آه يا أختي ما أعظم الثمن الذي ادفعه وأنا في بلاد كل ما فيها متجلد متجمد، حتى مشاعر القلب والروح هنا يتمكن منها صقيع اللانتماء لأرض أو بشر، بلاد كل ما فيها ينحو إلى رتابة مفرغة من الإحساس والنبض والشعور، بلاد تنطبع الدهشة على غرة أهلها حين يروا إنسانا يتحدث عن دفء المكان ودفء الشعور، آه، وألف آه يا صنو روحي وشقيقة قلبي وزاد عمري، آه، آه تمتد من غربة تذوي كل آمالي وأحلامي، كل أفراحي والواني، آه من ارض صلفة متعجرفة، آه يا أختي آه.
بيني وبينك يا أختاه، ملاين الأميال، بيني وبينك قوانين الهجرة واللجوء، تلك القوانين التي تحظر علي زيارة الوطن لخمسة أعوام قادمة، بيني وبينك الاستعمار بكل خبثه وأورامه وصديده وتقيحه وظلمه وقهره، بيني وبينك حدود تأبى أن تفتح حتى لمن فقد أهله، بيني وبينك فواصل مقامة على امتداد القلب والروح. ولو – وعدت لسلاحي البتار " لو " – كنت املك قدرة الوصول إليك في رمشة عين أو اقل لفعلت، ولكني اعلم باني لو قطعت مسافات البلاد الفاصلة، فاني لن أستطيع أن أقطع الاستعمار الجاثم على ثرى الوطن.
لكنها وصية مني إليك، وأنت الآن لا تحتملين ثقل أي وصية، وصية احمليها لقبرين يرقد فيهما أبي وأمي، اذهبي اليهما، وقولي لهما بصوت عال، عال، صوت يمزق الآفاق ويقطع المسافات، قولي لهما:- " الآن عرف المأمون لماذا تشبثتما بالفقر والمخيم، ولماذا رفضتما الخروج خلف الحدود التي تفصل ارض الوطن، الآن عرف معنى أن تكون أخته بحاجة لذراعه وصدره، فيكون عاجزا عن تقديمها لها " ثم عودي لهلالي الرائع، لبدر عمري وقولي له:- " خالك الذي أحببته لا يستطيع السير بجنازتك، بل لا يريد السير في جنازتك، قولي له بأنه الحي في موته، واني الميت بحياتي، قولي له انه الحر في قبره، واني أنا العاجز رغم ما يبدو لي وللناس من أفاق مفتوحة."
وابكي أنت وكل الجمع الذي حولك على الميت الحي، على الميت الذي غادر الوطن بحثا عن رغيف لا يسمن ولا يغني من جوع، وافتحي بيتا للعزاء، وتقبلي عزاء الناس بوفاة أخيك الذي يسير على شوارع وأرصفة وطرقات لا تحمل أنفاس ارض أو سماء، وقولي القول المأثور " أنا لله وإنا إليه راجعون " فان سالك الناس عن سبب قولك هذا في أي وقت أو لحظة، أجيبهم في كل وقت وفي كل لحظة:- " اليوم تناهى إلي خبر رحيل أخي ".
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج -24-11-2005