النص الأصلي
تقاطُع
ما بينَ شهقةِ القدرِ وصقيعِ الحقيقةِ يصرخُ الصمتُ وتتحجرُ مآقي الوقتِ...و تضيعُ معالم الصورة .
لم يدر في خلدي ذلك اليوم أثناء توجّهي إلى عملي أنني سأحمل في ذاكرتي ما لا يحتمل التصديق..
ذهبتُ لاصطحاب مريضتي إلى غرفةِ سحب العيّنات المخبرية من أجلِ إجراء عمليّة جراحيّة لاستئصالِ الرّحمِ في اليوم التّالي .
ألقيتُ عليها التّحيّةَ فردّت بهدوء، صاحبته مسحة من حزن ارتسمت على وجهها. أكملت الحديث بالشّرح عمّا يتطلّبه أمر العمليّة، ثمّ رافقتني لإجراء الفحوصات، فجأة تباطأت خطواتها فقد لمحت شرطيّة تقف بباب إحدى الغرف ، وإذا بها تتساءل بانفعال: ما ذنبُ هذه الطّفلة لتعاقب على جريمة لم تكن مسؤوليتها وحدها؟!
أيّة طفلة؟ سألت فردّت : تلك التي حضرت في الصّباح تحمل وزر خطيئة اقترفتها والدتها .
وما ذنبُ والدتها ؟ تساءلت مستغربة!
احتدّ صوتها مستنكرةً: ما ذنبُ والدتها ؟ أين هي؟ ما هي وظيفتُها ؟ كيف لم يخبرها قلبها ؟ وأين عين الأم اليقظة لتراها ؟ الأم هي من يجب أن تحاكم وليست هذه الطّفلة .. هي المجرمة بسبب إهمالها!
كان الصّمت هو الحل الأمثل ؛كي أتفادى الّنقاش في قضايا لا تتعلّق بأمور العمل. .
بعد سحب العيّنات المخبريّة وعودتنا، رأينا الشّرطيّة تصطحب الفتاة الى خارج القسم، فتجمّدت مريضتي في مكانها
قفزت العيون من محاجرها و أحتبس التحشرج في الرثاء
عندما تقاطع القدر مع يقظة الأم على جسر الحياة بصوت الفتاة المرعوبة يناديها:
أ مّ ي...............
انتهت
************************************************** *
رؤية نقدية
لم تستحق الأم هذه اللوعة وهذا اللقاء وهذا النداء الحى الذى يطرب وجدان كل امرأة " أمى " الا مع أجراس افاقة وصحوة متأخرة ربما صنعها القدر ولم تكن بكامل اختيارها ولم تكن تتوقع أن تعود لأمومتها وهى على أعتاب التخلص من بيت الطفولة داخلها .
المرأة هنا مريضة ، أى أنها عاشت ردحاً من الزمن سليمة صحيحة معافاة البدن ، ولم ينطق ضميرها ولم يهتز كيانها ولم تراجع أخطاءها وتحدث نفسها باللوم والتأنيب ، ولم تفكر لحظة طوال تلك الفترة فى أمومتها وواجباتها نحو ابنتها .
وليس مرضاً عادياً ، انما هى على وشك اجراء عملية استئصال رحم ، ويا للمفارقة العجيبة والتقاطع المدهش ، فلم تتحرك مشاعر الأمومة فى الضمير ولم تفق عاطفتها ولم يصحُ احساسها الا على باب غرفة عمليات ، ستستأصل داخلها رحمها عما قليل لتكتب هناك نهاية علاقتها المادية بالنسل والتكاثر .
هذا أول تقاطع حيث فقد من جهة ، تقابله صحوة أمومة مدفونة ويقظتها بعد طول رقاد وغيبة فى متاهات وانشغالات الحياة ؛ فظهر لنا المشهد رائعاً بين استئصال رحم وعودة ضمير الرحم وروحه ، بين نمو واضمحلال ، وبين صلة وانقطاع ، ومن يأس من تواصل وانتاج واستمرار مستقبلى الى عودة اضطرارية الى الموجود فى الماضى للتعويض والتسرية والتسلية .
نسيت هذه المرأة فى طريق عودتها الاضطرارية لأمومتها أنها تلك الجحودة المتكاسلة المهملة ، لدرجة أنها تتقمص شخصية المُصلحة الاجتماعية والانسانة المثالية التى تحاكم أخرى مجهولة انشغلت عن ابنتها وتهاونت فى حقها وتركتها نهباً للجريمة والخطيئة .
التقاطع الثانى فى القصة كان بمثابة الجائزة على يقظة ضميرها الاضرارية ، ومع جرس افاقة الأمومة ولسع الأسئلة التى يبدو أنها كانت توجهها لنفسها قبل أى أحد آخر ؛ أن أين كانت الأم وأين كان قلبها وعينها ؟؟؟ كان صوت الفتاة يتصاعد عند اللقاء بهذا النداء التاريخى الأثير – أمى - .
كأنها لم تستحقه قبل ذلك ، ولم يخرج من ضمير الفتاة وفمها الا عندما شاء القدر ذلك ، عندما ظهرَ عملياً أنها تستحقه ، فى بداية طريق تصحيح المسيرة والخطايا والأخطاء واعادة الاعتبار للأمومة .
تقاطع قدرى بالطبع ، يمهل المتهاونين فلا ينقذهم الا عندما يستحقون .
وقد استحقت المرأة العودة لأمومتها بعد أن عُوقبت باليأس من تجددها مستقبلاً ؛ حيث كانت أسئلتها موجهة فى الأساس لتقصيرها واهمالها ، كأنها كانت تشعر أنها الأم الحقيقية .