كم من الحمقى قد تساءلوا : لم النجوم لا تسقط من السماء ؟
لكن أنتم يا من علمهم الحكماء تعرفون أن النجوم لا تتحرك سواء صعودا أو نزولا .
تدور فقط من الشرق الى الغرب متتبعة المسار الأكثر اتقانا على الاطلاق ( الدائرة )
بما أن الدائرة تحكم السماوات ، فان النجوم لم تسقط .. ولن تسقط .
لكن ماذا عن هنا .. على الأرض ؟
هذا هو السؤال .. لكن ماذا عن هنا على الأرض ؟
على الأرض فى مدينة الاسكندرية فى القرن الرابع الميلادى كان هناك من يبحث عن اجابة على هذا السؤال .. كان هناك من يجاهد من أجل أن تظل ( دائرة ) الأرض متماسكة منسجمة متناغمة كدائرة السماء .
وأن يظل ( مركز الدائرة ) - الذى يتمثل فى السلطة الحاكمة – محايدا باسطا نفوذه وسلطانه بالتساوى على الجميع ، غير منحاز لطائفة ضد أخرى ، وغير خاضع لنفوذ وسلطة طائفة بعينها ، حتى تحتفظ الدائرة بتوازنها وتماسكها .
وحتى تظل دورة الحياة دائرة فى مسار التعايش والحب واحترام انسانية الآخر واحترام عقله واعتقاده واختياره .
كان هناك فى الاسكندرية – منارة العلم والمعرفة ومركز العالم الثقافى فى ذلك الوقت – من يعمل جاهدا حتى لا تفقد سلطة الدولة قدرتها على السيطرة على مركز الدائرة ، فتنهار ( الدائرة ) وتعم الفوضى .
هكذا كانت تشرح ( هيباتيا ) لتلاميذها ومريديها حيث كانت تلقى محاضراتها فى أكبر وأعرق مكتبة معروفة على الاطلاق فى ذلك الوقت ، كانت تقول :
" اذا لم يوجد مركز للكون سيكون مشوها .. لا محدودا .. لا شكل له .. فوضويا "
بسهولة نستخرج من أحداث الفيلم الأسبانى المبهر ( أجورا ) ما نلحظ فيه اهتمام بطلته بضرورة احتفاظ مركز الدائرة على الأرض بسلطته ونفوذه وصلاحياته .
عندما خرج الوثنيون الى الساحة للدفاع بالسلاح عن آلهتهم التى يعبث بها المسيحيون ، فزعت هيباتيا تردهم ، ودار حوار بين القائد الوثنى وبينها أمام الجموع المثارة .
قالت انها تريد حماية تلاميذها حتى لا يتحولوا الى قتلة .
وعندما أشار القائد الى اهانة الآلهة فى الساحة ، ردت عليه هيباتيا : اذا كنت حقا تشعر بالاهانة فلا تحمل سيفا ، لكن اذهب وقدم شكوى الى الوالى .
وعندما وقفت هيباتيا أمام الوالى ( أورستز ) الذى كان يوما أحد تلاميذها ، بعد الفوضى التى عمت المدينة وبعد المذابح التى انتشرت فى شوارعها .
انها تسأل الوالى ( أين توجد القوات ؟ ولماذا لا يوجد جنود بالشارع ؟ )
ثم تسأله : لماذا لا يصدر أمرا باعتقال المحرض ؟!
نظر اليها فى ارتباك وقال فى عجز : الأمر ليس بهذه السهولة !
انها لا تفتأ تحث ( الدولة ) على القيام بدورها وعلى استخدام نفوذها ، قبل أن تقع الكارثة وتسقط ( الدائرة ) بسبب تراخى ( المركز ) وضعفه .
انها فلسفة هيباتيا التى تعلمتها من نظام السماء الذى أرادت تطبيقه على الأرض .
ظلت هيباتيا طوال الفيلم ترسم الدوائر وتحاول معرفة أسرار مساراتها وتحاول اثبات نظرية دوران الأرض فى مسار دائرى حول الشمس .
ظلت تعلم تلاميذها أن ( الدائرة ) هى أتم الأشكال وأنقاها وأكثرها اتزانا وتماسكا ؛ فجميع نقاط محيطها تقع على مسافة واحدة من ( مركزها المحتفظ بحياديته وهيبته ونفوذه ومكانته، والمحتفظ بمسافة واحدة من جميع نقاط الدائرة ) .
لكن جهود هيباتيا ذهبت سدى ؛ فمركز الدولة فقد حياديته ونزاهته وأيضا فقد نفوذه وهيبته وقذفته الجماهير الهائجة بالحجارة .
وفقدت الدائرة على اثر ذلك انسجامها وتناغمها ، وألغيت نقاط الدائرة وضيق عليها لصالح نقطة واحدة ، واعتدى على حق نقاط الدائرة الأخرى فى الوجود بمحيطها وفى اشهار هذا الوجود والتعبير عنه ، بعد أن صارت سلطة الكنيسة هى مركز الدولة .
انها رؤية فنية فى منتهى النضج والعمق والابداع لحدث تاريخى قديم من خلال فيلم أخرجه المبدع أليخاندرو أمينابار الذى لم يبلغ بعد الأربعين من عمره .
والذى استحق أن يقف كبار نقاد السينما يصفقون لفيلمه أكثر من عشر دقائق فى مهرجان كان .
وأظن أن هذا التقدير وهذه الحفاوة لم تكن فقط بسبب الانتاج الضخم ولا الديكورات المبهرة ولا السيناريو المحكم ولا الحرفية العالية فى التناول ، انما قبل ذلك كله كان توظيف هذا الحدث التاريخى الموثق فى صالح تلك الدلالة العميقة ، وهذا الدرس البليغ الموجه لسكان الأرض فى القرن الحادى والعشرين .
الفيلم أيضا يبحث العلاقة بين العلم والدين ؛ فمكتبة الاسكندرية قبل الهجمة الهمجية الثانية عليها لم تكن رمزا ثقافيا وعلميا فقط ، بل كانت رمزا دينيا أيضا ، دون أن يرفض العلم الدين أو أن يطرد الدين العلم .
وهيباتيا ( الوثنية ) التى يصفها كارل ساجان ( صاحب كتاب الكون ) بقوله : " انها آخر بريق لشعاع علم بزغ فى الاسكندرية " .
ويصفها المؤرخ الانجليزى الكبير ادوارد جيبون بقوله : " صاحبة الجمال الأسطورى .. كانت فى منتهى التواضع على الرغم من جمالها وعلمها " .
هذا المرأة ( الوثنية ) التى وضعتها أبحاثها حول النظام الشمسى ودوران الأرض حول الشمس - قبل ألف سنة على اكتشافات جاليليو – فى مواجهة دامية مع الكنيسة .
تلك المرأة الملحدة التى لا تؤمن بالأديان كانت تحترم الآخر وتحترم اختياره وتكره العنف والقتل والتطرف .
ورأيناها فى الفيلم تعتق رقبة عبدها المسيحى وتمنحه الحرية ، وتعلم تلاميذها المسيحيين والوثنيين واليهود أن ( القتل ليس من شيم طلبة العلم والمثقفين والأحرار انما هو عمل الرعاع والعبيد ) وأن ( ثمة أشياء كثيرة تجمعنا أكثر من التى تفرقنا ) .
حاول تلميذها ( أورستز ) الذى صار بعد ذلك واليا للمدينة استخدام عبارة معلمته تلك لمحاولة تهدئة الأجواء المشحونة بين المسيحيين واليهود بعد الاعتداءات المتبادلة بينهما .
لكنه فى واقع الأمر كان لا يملك الا الكلام وترديد شعارات فارغة .
أما سلطة الأمر والنهى والتحكم فى الأحداث والسيطرة على مقاليد الأمور فكانت بيد من لهم القدرة على تهييج الجماهير وحشدهم فى الشوارع للتنكيل بخصومهم فى العقيدة ولفرض الأمر الواقع بقوة السلاح .
وعندما تضمحل سلطة الحاكم أمام طوفان التطرف الجارف ، فمن الطبيعى أن يحتل ( أمونيوس ) الساحة ويقود قطعانه المهووسة لهدم آثار الحضارة وحرق نتاج العقول .
وفى مشهد من أروع مشاهد الفيلم يقود ( أمونيوس ) أتباعه ويقتحمون بهوس أقرب الى الجنون متحف الاسكندرية الشهير ويدمرون مكتبتها العريقة ، بينما هيباتيا وتلاميذها يسابقون الزمن ويحاولون الهرب بما استطاعوا انقاذه من وثائق علمية وبحوث ومخطوطات نادرة تحوى فى طياتها كل ما توصل اليه العقل البشرى من أفكار وكشوف علمية فى تلك الفترة .
من الطبيعى أن يحتل ( أمونيوس ) الساحة ليعتدى بهذه الهمجية والوحشية على منارة الثقافة والعلم والأدب ؛ فهو ابتداءا لا يحترم العقل ويسخر من الذين يجادلونه بالحجة والمنطق والبرهان العقلى ، ويعتمد فى ايمانه ودعوته للآخرين على المعجزة .. والمعجزة فقط .
وقد رأينا كيف اقتحم النار فى بداية الفيلم ليثبت أن ( الهه ) موجود وأنه هو الذى أنقذه ، ثم رأينا كيف قذف أتباعه بأحد الوثنيين فى النار وأحرقوه بها ليثبتوا للجماهير أن ( آلهته ) عاجزة عن حمايته .
من الطبيعى أن يحتل ( أمونيوس ) الساحة ، وأن تتحول مكتبة الاسكندرية – فى مشهد مؤلم – الى زريبة خراف ومأوى للحيوانات والطيور بعد أن كانت مركز ابداع ومنارة معرفة .
فقد ألغى دور الدولة ، وصار يحتل ( المركز ) رموز رفض الآخر ودعاة احتكار الحقيقة المطلقة وخصوم التعددية والتنوع .
لا يمكن بحال من الأحوال هنا أن نفهم رسالة خاطئة يوجهها الفيلم لدين بعينه ؛ فمعروف أن تعاليم المسيحية الحقة أبعد ما تكون عن العنف والتطرف وسفك الدماء البريئة ، والمسيح عليه السلام عاش يدعو الى الحب والتسامح والتعايش والغفران .
وهذا هو ما جعل ( دافوس ) - الذى ترك طلب العلم وانضم لعصابات القتل – يشك وهو يتخلص مع جماعته من جثث اليهود .
يجلس ( دافوس ) على مقربة من رفاقه الذين كان يستمع معهم الى كلمات الأسقف فى الكنيسة وهو يرتل ما اشتهر على لسان المسيح : " طوبى للحزانى فانهم سيتعزون .. طوبى للودعاء لأنهم سيرثون الأرض .. طوبى للجياع والعطاشى الى البر لأنهم سيشبعون ، طوبى للرحماء لأنهم سيرحمون .. طوبى لأتقياء القلب لأنهم سيعاينون الله " !
الآن لا عمل لهم الا القتل ثم التخلص من الجثث ، فيسأل ( دافوس ) ( أمونيوس ) :
هل راودك شك ذات مرة ؟ فيجيبه بالنفى ويسأله عن السبب ؟
فيقول دافوس : قد تم الغفران لى .. لكنى أعجز اليوم عن الغفران !
فيضحك أمونيوس ساخرا من ايقاع الكلمة ( الغفران ) ثم ينظر الى الجثث أمامه ويتساءل مستنكرا : الغفران لمن .. لليهود ؟
وعندما يذكره ( دافوس ) بأن المسيح قد غفر لهم فى العبور .
يرد ( أمونيوس ) بأن المسيح كان ( الها ) بوسعه أن يغفر ، ولا مجال للمقارنة بيننا وبين ( الله ) !
وأن ( الله ) يريدنا هنا اليوم لنفعل ما نقوم بفعله !!
الفيلم اذاً ليس – كما اعتقد البعض – ادانة للمسيحية ، لكنه تحذير عالى اللهجة من الاستسلام لمنطق وارادة المهووسين الذين يعتبرون كل من لم يعتنق المسيحية ( وكل من أراد التحول من المسيحية الى غيرها ) عدوا مبينا ، لا حق له فى الحياة ولا مكان له فى الوجود .
من ضمن القضايا الهامة التى أثارها فيلم ( أجورا ) قضية استخدام النص المقدس لحساب أغراض سياسية ، وتوجيه العوام بواسطة النص الذى يقدسونه للقيام بأمور يظنونها صادرة عن ( الله ) وما هى الا مطامع لبعض رجال الدين ألبسوها ثوب القداسة ولم يخجلوا من تصويرها للعوام وكأنها صادرة عن ( الله ) .
وقد رأينا كيف أن الأسقف لم يجد طريقة أسهل للتحريض ضد ( هيباتيا ) من استخدام النص المقدس ، فاقتطع من الانجيل ما قد يفهم منه العوام أن المرأة لا ينبغى أن يكون لها دور فى الحياة الفكرية والثقافية ، وأنه من العار للرجال أن يخضعوا لرأى امرأة !
يتلو الأسقف الآيات ثم يطلب من الجموع أن تركع لكلمة الله !
وهو فى واقع الأمر لا يطلب منهم الركوع لكلمة الله ، بل الركوع لرغبته الخاصة فى التخلص من ( هيباتيا ) التى بقيت عقبة أخيرة فى طريق الانتشار الكاسح للمسيحية !
رغم الانتاج الهائل والسيناريو المبهر والاخراج البارع والجهد الكبير الذى بذل ليخرج هذا الفيلم الرائع بهذه الصورة المدهشة ، الا أن البعض قد يعتب على المخرج الذى حرمنا من مشهد نهاية أكثر اثارة ، عندما خالف الوقائع التاريخية ، وخفف كثيرا من البشاعة والدموية والوحشية التى اشتهر بها حادث مقتل ( هيباتيا ) .
لكننا فى الوقت نفسه لا نستطيع انكار أن المشهد جاء خادما لدراما الفيلم ، وتوظيفا جيدا لشخصية ( دافوس ) عاشق ( هيباتيا ) وتلميذها الذى ترك الحياة العقلية وقاعة المحاضرات ليحمل سيفه وينضم الى عصابات القتل الجماعى .
وهو أيضا عبدها المسيحى الذى أعتقت رقبته ومنحته حريته ودافعت عن حقه فى اختيار عقيدته .
لقد جاء مقتل ( هيباتيا ) فى الفيلم على يد عبدها العاشق ، الذى لجأ للحيلة لكى ينقذ معلمته .. لا من الموت ، بل من الشعور بقسوة الحجارة وذل الرجم .
كانت نهاية جديرة بدافوس وهو يخنق أعز مخلوق عنده بيديه ، وهو يتمزق حزنا وألما على مصير المرأة التى عشقها واحترمها ؛ فقد ظل الى اللحظة الأخيرة شاكا غير مؤمن تماما بشرعية ما يرتكب من قتل وازهاق للنفوس .
فهل تراه يبصر الحقيقة ويجد اليقين فى تلك اللحظة الفارقة ؟
وهى نهاية جديرة أيضا بهيباتيا التى التقت عيناها بعينى دافوس فى انتظار الغاضبين الذين ذهبوا لجلب الحجارة ، وفهمت قراره وشجعته على تنفيذه واستسلمت لكفيه وهما يلتفان فى حزن حول عنقها .
دافوس الذى قتل معلمته بيديه لينقذها من الشعور بمصير أبشع من الموت ، تقرأ فى عينيه وهو يفارق جماعته التى ترجم الجسد الميت ، كأنه يردد كلمات المسيح عليه السلام ويسائل القتلة : كيف تقتلون امرأة لم ترتكب اثما وضرب بها المثل فى الطهر والعفة ، بينما السيد المسيح قد دافع عن امرأة ( بغى ) وقال قولته الخالدة :
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !