6. إعــادة الحيــاه
إنَّ الروح هي سِرُّ الحياة، كما أنَّ لها مظاهر وآثاراً تدل عليها، ومن مظاهر الروح: الفقه والعقل والإستماع والإبصار والحركة الإرادية، فلا توجد إلآ بوجود الروح، فإذا نزعت الروح فقدت كل تلك الآثار والمظاهر وانعدمت الحياة، وفي النَّوم يتوفى الله الأنفس ويقبض الأرواح، لذلك فالنائم يفقد مظاهر الروح من الفهم والإدراك والإبصار والإستماع والحركة الإرادية، قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها وَالتي لَمْ تَمُتْ في نَوْمِها فيمسِكُ التي قضى عَليها المَوْت وَيُرْسِل الأخرى إلى أجَلٍ مُسَمى)[ 1]
وحادثة "أصحاب الكهف والرَّقيم" هي من الشّواهد الدّالة على قدرته تعالى، حين أوقف حياة هؤلاء الفتية وقبض أرواحهم ـ إلى أجل مُسَمى ـ فأستغرقوا في سّبات عميق لمدة قرون عدة، ثُمَّ أعاد إليهم الحياة ليكونوا آية دالة على عظمته وقدرته تعالى.
وليست تلك الحادثة هي فريدة نوعها، إذ يورد لنا النَّص القرآني حادثة مشابهة جرى فيها إعادة الحياة، تلك الحادثة يسوقها النص القرآني في "سورة البقرة" في معرض الحديث عن سرّ الحياة والموت والخلق والبعث، ومن ضمن الآيات العديدة التي يركز فيها القرآن على الجانب العقائدي لإنشاء التصورالصحيح لحقائق هذا الوجود، ليدرك المسلم حقائق عقيدته من خلال رؤية واعية عميقة ومستنيرة، تلك الرؤية القائمة على الأدلة والشواهد المؤدية إلى الجذم واليقين الثابت المطمئن، ليؤدي للتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطه بخالقه، ومن ثم إلى إدراك الإنسان لصلته بالله الخالق إدراكاً يقينياً ثابتاً، بحيث يوجد لدى الإنسان ايماناً أي تصديقاً جاذماً مطابقاً لهذا الواقع الذي أحسه وأدركه عن دليل عقلي ثابت، يبعد عن الظّن والوهم والشك ونظريات الإحتمال. فإلى النّص القرآني: (أوْ كَالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَة على عُروشِها قالَ أنى يُحْيِ هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللهُ مائَةَ عامٍٍ ثُمَّ بَعّثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أوْ بَعْضُ يَوْمٍ ٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَهْ وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلناسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسوها لَحْمًا فَلَما تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللهُ عَلى كُلِ شَئٍ قّديرٌ)[ 2]
لم يعلمنا النّص القرآني من هوالرجل المارعلى القرية، كما لم يعلمنا من تلك القرية الخاوية على عروشها، ولو شاء لأعلمنا، ولو كانت حكمة النّص لا تتحقق إلآ بهذا الإفصاح ما أهمل القرآن ذكره. والذي يعنينا من ذكر تلك القصة هو عظمة الحدث وجلاله، والعِبَر التي نستخلصها من الحدث، والدلائل التي يدل عليها، بغض النظر عن اسم الشخص الذي حدثت معه، وبغض النظر عن اسم القرية.
ولأنَّ النَص القرآني لم يذكر الأسماء وتجاهلها، فقد إختُلِفَ فيها، إذ قال عكرمة وقتادة والربيع بن أنس والضحاك والسّدي: أنّ المار هو "عزير بن شرحيا". وقال وهب بن منبه وآخرون: هو "أرمياء بن خلفياء"[3 ]. أمّا القرية التي مرّ عليها، فقال عكرمة ووهب وقتاده: هي "بيت المقدس". وقال الضحاك: هي "الأرض المقدسة". وقال السدي: هي "سلماباد". وقال الكلبي: هي "دير ساير". وقيل: هي "دير هرقل". وقيل: هي "قرية العنب"[4 ] على بعد فرسخين من بيت المقدس.
لقد ذهب أغلب المؤرخين إلى أنّ المار بالقرية هو "العزير"، واشتهرت القصة بينهم بإسمه، وهي كما يرويها إبن كثير عن إسحق بن بشر بإسناده: [إنَّ عُزيراً كان عبدٌ صالحاً حكيماً في بني إسرائيل ممن تعلم التوراة وحفظها، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى قرية خالية خاوية على عروشها حين قامت الظهيرة وأصابه الحر، فدخل القرية الخربة وهو على حماره، ونزل عن حماره ومعه سلّة تين وأخرى فيها عنب، فنزل في ظلِّ تلك الخربة وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في القصعة ليبتل في العصير ليأكله، ثم اسـتلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاماً بالية نخرة، فقال: "أنى يحي هذه الله بعد موتها". والقول هنا ليس قول المتشكك المنكر للبعث والإحياء، بل هو قول ينطوي على التعجب. فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، وأماته مائة عام.
فلما أتت عليه مائة عام، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث. قال: فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل، وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحي الله الموتى، ثم ركّب حَلقَهُ وهو ينظر، ثم كسى عظامه باللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل فاستوى جالسأ. فقال له المَلَك: كم لبثتَ؟. قال: لبثتُ يوماً أو بعض يوم، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب، فقال أو بعض يوم ولم يتم لي يوم. فقال له المَلَك: بل لبثتَ مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك، يعني بالطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي اعتصره في القصعة، فإذا بهما لم يتغير حالهما، فذلك قوله تعالى "لم يتسنه" يعني لم يتغير، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شئ من حالهما. فكأنّه أنكر في نفسه في قلبه فقال له المَلَكَ: أنكرت ما قلت لك؟ أُنظر إلى حمارك، فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة، فنادى المَلَكُ عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى رَكَبَّهُ المَلَكَ وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار رافعاً رأسه وأُذنيه إلى السَّماء ناهقاً. فذلك قوله تعالى: (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً) يعني: وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضاً في أوصالها حتى إذا صارت عظاماً مصوراً بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحماً. (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شئ قدير ) أي من إحياء الموتى.][ 5]
ولرب سائل يتساءل: هل هذا الرجل المار على تلك القرية الخربة المحطمة على قواعدها كان ملحد كافر بالخلق والبعث بعد موت فألقى جملته "أنى يحي هذه الله بعد موتها "إنكارأ وجحوداً؟. وعلى هذا التساؤل يجيب صاحب الظلال:
[إنَّ القائل ليعرف أنّ الله هناك، ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه يجعله يحار: كيف يحي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء... وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وايحاءاته، فيرسم المشهد كأنّما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر. "أنى يحي الله هذه بعد موتها!! كيف تدبُّ الحياة في هذا الموات؟ "فأماته الله مائة عام، ثُمَّ بعثه. لم يقل له كيف، إنَّما أراه في عالم الواقع كيف!!! فالمشاعر والتأثرات تكون أحياناً من العنف والعمق بحيث لا تُعالَجُ بالبرهان العقلي، وحتى بالمنطق الوجداني، ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان... إنّما يكون بالتّجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ فيها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!.. (قال كم لبِثْتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم). وما يُدريه كم لبثَ، والإحساس بالزمن لا يكون إلآ مع الحياة والوعي؟ على أنَّ الحس الإنساني ليس المقياس الوحيد للحقيقة، فهو يُخدَعُ وَيَضِل فيرى الزمن المديد قصيراً لملابسة طارئة، كما يرى اللحظة الصغيرة دهراً طويلاً لملابسة طارئة كذلك!: (قالَ لبثتُ مائة عام).
وتبعاً لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسّية واقعية، نتصور أنَّهُ لا بُدَّ كانت هُناك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام... وهذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعامه وشرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين: (فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه) وإذأ فلا بد أنّ هذه الآثار المحسوسة كانت ممثلة في شخصه أو في حماره: (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً)... أية عظام؟ عظامه هوَ؟. لو كان الأمر كذلك ـ كما يقول بعض المفسّرين أنّ عظامه هي التي تعرت من اللحم ـ للفتَ هذا نظره عندما استيقظ، ووخز حسه كذلك، وَلمَا كانت إجابته: (لَبِثتُ يوماً أو بعض يوم).
لذك نُرَجِحُ أنَّ الحمار هو الذي تعَرَّت عظامه وتفسّخت، ثمَّ كانت الآية هي ضَمُ هذه العظام بعضها إلى بعض وكُسْوَتها باللحم وردها إلى الحَياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه العفن، ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد، مُعَرَّضونَ لِمُؤثرات جوية وبيئية واحده، آية أُخرى على القدرة التي لا يُعْجِزها شئ، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد، وليدرك الرجل كيف يحي هذه الله بعد موتها!!!][ 6]
نعــــم، إنَّ ظلال النَّص القرآني توحي إلينا بخطأ ما ذهب إليه إبن كثير وغيره من رواية "بشر بن إسحق" السابقة من تعري عظام صاحب العظام وإعادة كسوتها باللحم، فالآية كانت فيه (ولِنجعلك آية للناس)، وذلك يعني أنّه لم تُبلى عظامه في حين بليت عظام حماره.
كانت تلك قصّة من القصص العديدة، التي أتى بها القرآن الكريم لِلَفت إنتباه الإنسان إلى قدرة الله المطلقة في الخلق والإنشاء والإماتة وإعادة البَعْث، لتكون برهانأ آخر يُضاف إلى البراهين العديدة في طريق الإيمان، وهكذا قالَ الرَّجُل الذي مرّت به التجربة شخصياً ولم تُنْقَلُ إليه نقلاً أو روايَةً، بل شاهدها بعينيه وأحسها ولمسها بنفسه: (أعْلَمُ أنّ الله على كل شئ قدير)... قدير على الخلق من عَدَم... وقدير على قبض الروح ونزع الحياة متى شاء... وقدير على إعادة الحياة وبعث الإنسان من جديد.
________________________________
[1] الزمر: ( 42 ).
[2] البقرة: ( 259 ).
[3] قالوا أن " آرمياء بن خلفياء " هو الخضر عليه السلام.
[4] أي مدينة " الخليل " من أعمال فلسطين.
[5] ابن كثير، قصص القرآن، الصفحات ( 631 – 634 ).
- إبن كثير، البداية والنهاية، مجلد ( 1 )، الصفحات ( 43 – 46 ).
[6] قطب – سيد قطب، في ظلال القرآن، مجلد (1)، جزء ( 3 )، الصفحات ( 229 – 300 ).