مبخرةٌ و دُخان!
صراخٌ وشجارٌ في المنزلِ المقابلِ للمقهى، الذي يفصلُ بينهما شارعٌ عريضٌ. وبدا للسّامعِ من بعيدٍ أن الصوتَ النّاجمَ عنِ الصراخِ لرجلينِ، إلا أن الأمرَ ليسَ كذلكَ. صحيحٌ أن أحدَهما هو صوتُ " أبو جحيم"، وأبو جحيمٍ هذا هوَ ربُّ البيتِ. ولكنَّ الآخرَ هو صوتُ زوجِهِ "أم جحيم". وفي كلِّ حفلةٍ صباحيَّةٍ معتادةٍ عندما يناقشُ الزَّوجانِ مصروفاتِ البيتِ وغلاءَ المعيشةِ؛ فتعايرُهُ زوجُهُ بالجيرانِ من الرِّجالِ الَّذين يخرجونَ في الصَّباحِ فارغينَ..ولكنَّهمْ يعودونَ إلى بيوتِهم في المساءِ حاملينَ مُثقَلينَ.
قالتْ أمُّ جحيمٍ : أُتركْ الدُّخّانَ، فيستقيمُ الأمرُ، ولعلَّنا ندَّخرُ ذلكَ مصروفاً للبيتِ!
قالَ أبو جحيمٍ: اترُكي "الشيشة"، وأتركُ أنا الدُّخّانَ، فيستقيمُ الأمرُ بنا الاثنينِ أكثرَ!
قالت: إذا تركتُ "الشيشةَ" ...فكيفَ سأُسلِّي نفسيَ عن سجنِ البيتِ...دعني أنفِّسُ عن صدريَ نكدَ العيشِ ...دعني أنسى نظراتِ النّاس التي تجلدُنا بسياطِ الاحتقارِ...
قالَ أبو جحيمٍ :هم أصلاً لا يأبهونَ لنا ...ولكنَّك تضخمينَ الأمورَ...لا تأبهي لهم!
قالتْ : كانتْ عندي أمسِ أمُّ أحمدَ وأخبرتني عن رحلتِها السياحيَّة لليونانِ ...فلا سهرةَ تأخذُني إليها في اللَّيلِ لأروِّحَ عن نفسي ...ولا رحلاتٍ أسبوعيةٍ ولا شهريةٍ ..حتّى هنا في البلدِ!
قال: تعلمينَ أنَّ ذلكَ يتطلبُ مالاً...فلولا اقتصدتِ في المصروفِ...لأمكنَ أن نذهبَ في رحلةٍ إلى العقبةِ مثلاً...
قالتْ : ويلكَ ...لقد عصرتُ المصروفَ عصراً...وعلَّلْتُ الأولادَ...بالطَّعامِ البائتِ...عندَما كانوا أطفالاً صغاراً...ولكنَّهم بعدما كَبُروا...باتوا يرفضونَ طبيخَ البيتِ ...ويبقونَ كذلكَ في الجوعِ حتّى العشاءِ...إلا إذا أعطيتُهم ...نقوداً ليشتروا شاورما ...او بيرغرَ! ...إنهم يفضِّلونَ الوجباتِ السَّريعةَ ..يا حسرتي عليْهِم...إنَّهمْ يقلِّدون أبناءَ الجيرانِ!
أبو جحيمٍ: لكنَّ اللهَ خلقَ الناس ...وفضَّلَ بعضَهم على بعضٍ درجاتٍ !
قالتْ: ولكنَّ الأولادَ...لا يفهمونَ ذلكَ...فهمْ يطلبونَ...ويطلبونَ!...وراتبُ التَّقاعدِ لا يكادُ يكفي ثمنَ الطَّعامِ!
قالَ: ليسَ باليدِ حيلةٌ...فصرختْ في وجهِهِ: أتركْ الدُّخانَ...ويكفيكِ تدخينَ "الشيشةِ" في المقهى ...ألا يكفيكَ تدخينَ "الشيشة" مثليَ..
قالَ: ولكن لا أستطيعُ تركَ الدُّخانِ يا أمَّ جحيمٍ...ولا يستطيعُهُ أحدٌ..
قالتْ: بلْ يستطيعُ أيُ واحدٍ..إذا امتلكَ الإرادةَ...
قال: إنه يعشعِشُ في الدَّمِ كالمخدَّرِ...دمي يطلبُ السِّيجارةَ قبلَ أنْ تطلبَ معدتيَ الطعامَ والشَّرابَ
قالت:..لا تكن عبداً للسيجارةِ... أنظر جارنا "أبو اسماعيل" ...تركهُ منذُ عشرِ سنينَ...إنها الإرادةُ، وهذا كلُّ شيءٍ..
قال: منذُ أن تقاعدت وأنا أبحثُ عن عملٍ فلم أجدْ!...
قالتْ :أنتَ تقاعدتَّ وارتحتَ.."وانسخطَ" الرّاتبُ...وأنا ألا يحقُّ لي أن أتقاعدَ..
قالَ: كبِّري عقلكَ يا أمَّ جحيمٍ، وهل تتقاعدُ النِّساءُ في بيوتِّهنَ...
قالتْ : وأينَ حقوقُ النِّساءِ...أم إنَّهُ محكومٌ علي بالأشغالِ الشاقَّةِ المؤبَّدةِ !
قالَ : كيفَ أتركُ الدُّخّانَ وأنا اسمي " أبو جحيم"
قالتْ ساخرةً: وما علاقةُ هذا بذاكَ !
قالَ: عندَما أسيرُ في الشّارعِ ...أحسُّ أنّني أحترقُ...تأكلُ النّيرانُ جسدي!
قالتْ : وكيفَ ذلكَ؟!
قالَ: ألمْ تسمَعي المثلَ الذي يقولُ: لكلٍّ منَ النّاسِ منْ صفاتِ اسمِهِ نصيبٌ!
قالتْ ساخرةً "صايرْ تحكي حِكَمْ يا حبيبي"..
تابعتْ: و لعلَّه السَّرطانُ..اللهُ يأخذُكَ ونرتاحً...ساعتَها يكفي راتبُ التقاعدِ ونأكلُ اللَّوزَ والسُّكرَ
فاستشاطَ غاضباً : احترمي كلامَك يا امرأةُ...وإلا ! ثم سكتْ!
قالتْ في هدوءٍ وبرودٍ: ها..ها. وإلا ماذا! أتتزوجُ ..." قصةٌ قديمةٌ"!
بل أنتَ احترمْ حالكَ، واتركْ الدُّخانَ...وإلاّ... لا تعدْ للبيتِ ومعكَ علبةُ دخّانٍ واحدةٍ!
علا الصراخُ من جديدٍ..وفُتِحَ البابُ ...فخرجَ أبو جحيمٍ من البيتِ مدفوعاً إلى الشّارعِ..يتبعُهُ حذاءانِ قديمانِ قذفتهُما أمُّ جحيمٍ خلفَهُ...ودخلتْ ثمَّ ردّتْ البابَ خلفَها بعنفٍ!
ذهب أبو جحيمٍ إلى المقهى...جلسَ في باحةِ المقهى الخارجيةِ...طلبَ "الشيشة" وكأسَ شايٍ ثقيلٍ، وجعلَ يشربُ الشايَ ويتفكرُ من خلالِ دخّانِ "الشّيشة"، في خلقِ اللهِ، وفي كلامِ زوجِه أمِّ جحيمٍ:.. فهل يستطيعُ تركَ الدُّخّان!
أنهى شربَ الشّايِ وتدخينَ الشِّيشةِ...ودخلَ إلى المقهى...وجلسَ إلى جوارِ أحدِ رجالٍ أربعةٍ يلعبونَ الورقَ "لعبة الهاند". وكان ينظرُ في ورقِ اثنينِ منَ اللا عبينَ، ويرسلُ إشاراتٍ فيغمزُ بعينيِهِ وحواجبِهِ وفمهِ وشفتيهِ إلى فريقِ الخصمِ. وبعدَ أن خسرَ فريقٌ وفازَ آخرٌ ...انبرى شابٌ من الفريقِ الخاسرِ وذهبَ إلى أبي جحيمٍ..فلكمَهُ في فَمِهِ وقالَ : أنتَ احترمْ حالكَ... ولا تتدخلْ فيما لا يَعنيكَ!...وذهبَ إلى "وجاق" المقهى ليدفعَ ثمنَ المشروبات!
في المساءِ..فكَّرَ أبو جحيمٍ أن يشتريَ علبةَ دخّانٍ من الدُّكانِ المجاورِ...تذكَّر تهديدَ زوجِهِ..ووخزَه ألَمُ الورمِ النّاجمِ عن اللَّكمةِ في شفتيهِ...وأَلَمِ السُّخريةِ من زوجِهِ إذا نظرتهُ وقد وضعَ السِّيجارةَ بينَ شفتيْهِ المنتفختينِ ..فعادَ إلى البيتِ..وطرقَ البابَ...مرةً..مرّتينِ .. ثلاثَ مرّات..لم يستجب أحدٌ..أطلّت جارةٌ من الطابقِ الثاني،..خلعَ حذائيهِ وقذفهما عبرَ أعلى السُّورِ إلى صحنِ البيتِ، شمَّرَ ثوبهُ وامتدّتْ كفّاهُ إلى أعلى السُّورِ، وهمَّ بالصُّعودِ..