ما بعد الإنسانية “كل شي غالي في وطني إلا البشر فهم أرخص “
ذ:علال المديني
“كل شي غالي في وطني إلا البشر فهم أرخص ” هكذا رددت سيدة مصرية كلماتها تعليقا على غلاء المعيشة في وطنها ، هذه السيدة البسيطة والعادية لم يلوث ذهنا بالسياسة والإعلام الفاسد في الوطن العربي ، اختصرت زمن المحنة في الوطن الإسلامي في هذه الكلمات ، توحش وجشع رأس المال وخنق المواطن في قوته ومعيشته ،وتقديس المال وتحويله إلى معبود اضطرارا عند البعض واختيارا عند الآخرين ، وتبخيس قيمة الإنسان وسحقها من طرف عناصر ترى في الناس خاصة من الذين يرفضون الانصياع والمهانة خرفان وحشرات قتلها وتعذيبها لذة ما بعدها لذة .
*****
زمن المحنة تتشابه ملامحه في كل البلدان الإسلامية مع تجاوزات زمنية و كمية وليس كيفية تفرضها الظروف السياسية والتاريخية والمجتمعية لكل قطب من الأقطاب ، زمن المحنة ملمحه الرئيسي هو تبخيس من قيمة الإنسان والاستهتار بحياته وجعل روحه رقم فقط تضاف إلى الأرقام الأخرى ، وتشكل طبقا دسما للإعلام والتحليل، وكأنه حديث عن الخرفان والجرذان ….
******
عندما قتل ونكل بآلاف المصريين الشرفاء من أبناء الشرعية والحرية والكرامة من طرف الانقلابين وفلول النظام السابق وبمساندة من علماء ودعاة الطاغوت و رجال اليسار والليبراليون والقوميون والسلفيون ، وقفنا مع مستوى الانحطاط الأخلاقي ومدى تعطش للدماء من طرف التيارات وأصحاب رابطات العنق ممن يتشدقون بالقيم الإنسانية والحرية وحقوق الإنسان والتعايش والإخاء وغيرها من المصطلحات التي فقدت معناها مع هؤلاء وتحولت إلى شعارات جوفاء للاسترزاق وتبيض الوجه – القبح والعميل- للتيارات غير الأصيلة في الوطن الإسلامي ، عندها دشنا مرحلة جديدة من الهمجية تحمل اسم – ما بعد الإنسانية – تماشيا مع حالة التسيب الفكري والإيديولوجي فهي لست بمرحلة الحداثة في عنفها كما جسدها فكر نتشه في قوة القوة وليس بهمجية هولاكو وغيره الذي يقتل وهو يبرر قتله برغبته في السيطرة والعظمة ، ما بعد الإنسانية همجية وممارسات وحوش مفترسة لكن بخطاب مغلف بالإنسانية والحرية والديمقراطية …
******
مئات الخطابات بثت وأذيعت على قنوات الإعلام المصري وهي تدعو إلى القتل والذبح والتنكيل ووصف أبناء الشرعية بالخرفان ، والتلذذ بعذابهم وبكائهم وتبرير الاعتداء عليهم والتقليل من الأعداد التي تسقط في الميادين و كأن هؤلاء الذين يتساقطون حشرات ضارة ، وأدق وصف ينطبق على الإعلام والمحرضين من الانقلابيين قوله تعالى :” وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”
******
خطابات التحريض على القتل والتشنيع بالمقتول “الشهيد” عند أشباه المثقفين والإعلاميين أصبح أمر عادي ودون الشعور بأدنى حرج وهو ما يوحي بأن هؤلاء عناصر آلية فارغة العقل والإحساس ، كراكيز وظيفية تؤدي مهمة في غياب تام لإنسانيتها وبشريتها تقرأ ما يكتب لها وتردد ما تسمعه ، بالفعل إنه إنسان – ما بعد الإنسانية- أسمى أمانيه إشباع حاجاته المادية ولو على حساب حياة الآخرين وهو ما لمسناه في الإعلام المصري بشكل واضح ، والأغرب هو أننا لم نسمع استقالات من أداء هذا الدور من طرف الإعلاميين مما يؤكد الفرضية أن هؤلاء مغيبون إنسانينا.
******
المغرب لم يصل به الوضع إلى ما وصل إليه الأمر في مصر لأن الفشل كان مصير الطعمة الفاشية المغربية حليفة الفاشية المصرية التي استولت على مصر منذ ستون سنة لأن وعي جيش التحرير والحركة الوطنية والمواطن المغربي أفشل كل محاولة قام بها النظام الناصري ومعه أذنابه في الاستيلاء على السلطة و شراء ذمم وطنيين حاربوا المستعمر الفرنسي ، إلا أنه بقي بقايا من العناصر التي تحمل هذه القيم في الإقصاء والرغبة في السيطرة والتدجين والتحكم في المغاربة وممارسة عليهم دور القائد الملهم والمفكر الوثوقي والإله الذي لا يعبد غيره ، استمرت عناصر من هؤلاء بعضهم في السلطة ” مع المخزن” وعناصر في المعارضة تبنت العنف المسلح والتصفية الجسدية لكل معارض متضرعة بخطابات شعبوية مغلفة بالدفاع عن الضعفاء و الفقراء ومحاربة المخزن، هؤلاء تراجع عددهم بعد مراجعات متتالية لبعض قيادته خاصة من داخل الجامعة ولم يستمر في تبني هذا الفكر الظلامي والشفوني إلا قلة قليلة لكنها استطاعت أن تحول الجامعات المغربية إلى ساحات حرب وعنف بدل أن تكون ساحة المعرفة والعلم ومقارعة الحجة بالحجة وساحة تأطير وتثقيف ، كما استطاعت أن تتسلل بعض هذه العناصر إلى المخزن وخاصة إلى الدواليب الأمنية المخابرتية لتحرك خيوطها في الجامعة وبعدها في الشارع السياسي في مرحلة ظنت أنه حان الوقت للانقضاض على السلطة والقضاء على كل التيارات السياسية التي تشكل خطرا على وجودها ، وعلى وجود الطبقة الفاسدة والمستفيدة من الريع والسلطة …..
******
قضية تبني العنف والإقصاء من طرف هؤلاء ليس بالضرورة التلبس بلبوس إيديولوجي واحد بل قد يطلى بألوان سياسية مختلفة تصل إلى حد التناقض الظاهري لكنه التوافق الخفي على أبناء هذا الشعب ، ولو كان مقامي هنا ذكر أسماء طلبة في الجامعة طالما حدثونا عن الثورة والحزب الثوري والقوى التحريفية والإصلاحية ، والكمبرادورية وغيرها من مصطلحات القرون البائدة- التي توظف في التاريخ الآن بينما القاموس السياسي تجاوزها لتحل محلها مصطلحات أخرى- ثم انتقلوا إلى أحزب سياسية يسارية وليبرالية بل وأكثرهم في أحضان أحزاب إدارية تعلنها صراحة أنها في خدمة القصر وأهله وإن كان الأمر في حقيقته تبادل الأدوار فقط لأن من يقود القطار كما قلت سابقا واحد….
******
العنف جريمة لا تغتفر مهما كان هذا الإنسان الذي يمارس في حقه العنف ، خصم، منافس ،مخالف في الملة والدين بينك وبينه عداوة سابقة ، الحالة الوحيدة التي توجب ممارسة العنف بحدوده في نظري هي الدفاع عن النفس ورد المهاجم أما غير ذلك فهو أمر مرفوض ، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم جعل قتل الواحد كأنه قتل الناس جميعا وهي دلالة رمزية لم تنص عليها أي فلسفة من الفلسفات في العالم لتبين الآية الكريمة حرمة الدماء في الإسلام يقول تعالى : {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ}