أجد فى تجديد فكر الأمة وتطوير خطابها وانقاذ شبابها وفتياتها حياتى ، بقلمى وكتبى وانتاجى الفكرى أشعر بوجودى .
ظللت خادماً لهذا الفكر وهذه القضية طوال حياتى وسأظل الى أن ألقى الله ، أعطى الناس وأخدم قضايا الأمة ولا آخذ ولا أنتظر مديحاً ولا ربحاً مادياً .
يتكأ على عصا قصيرة غليظة فى قيظ الظهيرة سيراً بجوار صديق دربه ورفيق نضاله فى شارع الملك الصالح ، مرتدياً زيه المعهود شبيه بموضة الستينات على جسد مترهل ونظارة طبية من الطراز القديم .
يردد نفس العبارات التى يستدعيها فى ذات المناسبة ، عندما يرفع سماعة الهاتف ويتصل بصديقه الأديب ليصطحبه لدار النشر التى يتعاملان معها لتسليم نسخة كتابه الجديد .
رفع العصا فى صدر صديقه مستوقفاً اياه وسأله بحدة محاولاً التغلب على ثقل جسده : هل تتذكر كم نسخة بيعت من كتابى السابق ؟
صامتاً يحاول الأديب منير طه مساعدة رفيقه على تجنب السيارات وحذراً من الاصطدام بالمارة .
هل تعلم كم كتاباً ألفته فى السنوات الماضية حرموا الشعب من الاطلاع على ما جاء به من أفكار ولم يجد طريقه للنشر ؟
صامتاً مرتبكاً بعض الشئ يحاول منير مساعدة رفيقه فى تلمس الطريق الصحيح للعنوان الذى يخطئه فى كل مرة .
يتلفت منير طه برأسه ويرفع يده لأعلى محاولاً ايقاف عربة تاكسى ، ليعلوها المفكر بالعصا ويسقطها بضربة قوية غير متوقعة .
- أوجعتنى رغم أننى أفعل هذا لأجلك أيها العجوز العنيد .
- أنت تعلم جيداً ما هو لأجلى وتدرك ماذا يريحنى وماذا يتعبنى .
- العمر تقدم والأحوال تبدلت والظروف تغيرت .
- أما أنا فلن أغير عاداتى مهما حدث ، كيف تتجرأ على استقلال تاكسى ، ومن أين لنا بأجرته ، يبدو أنك تنوى التملص من دفع حساب المقهى هذا الشهر .
يقترب منير طه من صديقه المفكر ويهمس له : الكتب والأفكار لم تعد تسمن ولا تغنى من جوع يا رفيقى والسوق له شروط .
يتلقاهما صاحب دار النشر بوجهين متناقضين ، عندما احتفى بمنير طه حفاوة بالغة على غير العادة ، بينما لم ينل المفكر الا عبارات باردة مقتضبة ، مع كثير من ابداء الشكوى من ركود السوق ورواج كتب الاثارة وقصص الفضائح والأدب المكشوف وأسرار المشاهير .
رمق صاحب دار النشر عنوان كتاب المفكر الجديد باشمئزاز ونفور واضح " أمراض الأمة وروشتة علاجها " .
انتحى منير طه جانباً حريصاً على اصطحاب قدح الكوكتيل عندما جاءته مكالمة هاتفية ، محاولاً خفض صوته : نعم نعم ، فى الموعد المحدد سأنتظر سيارة القناة ، لا تقلق لكن لا تنسَ شروطنا التى اتفقنا عليها .
أعاد المفكر سريعاً شريط أحداث اليوم وهو جالس قبالة صاحب دار النشر يحتسى قهوته السادة كما جرت العادة .
تاكسى – حفاوة بمنير من مدير الدار على غير العادة – هاتف محمول من الطراز الحديث وموعد مع قناة فضائية .
سأل المفكر صاحب دار النشر عن عنوان مجموعة صديقه القصصية الأخيرة .
أجاب وبريق الاشتهاء يلمع فى عينيه : " داعرة بشروط " .
كان المفكر يسير بصعوبة بالغة فى طريق عودته الى منزله الصغير ذى الطابق الواحد ، يتمنى ألا يضل الطريق ، لأول مرة بمفرده منذ ثلاثين عاماً .