غصةٌ لا تُبارحُ الفؤادَ!
جلستْ إلى جوارهِ في سيّارتهِ الفارهةِ ليطوفَ بها خارجَ بيتِهِ. سألها عدةَ أسئلةٍ فأجابتْ عدةََ أجوبةٍ. لكنّ السؤالَ الّذي جعلَهُ يوقفُ السَّيارةَ جانبَ الطَّريقِ، فأمعنَ النَّظرَ فيها مليّاً، وفكَّرَ أن يدفعَها بقدمهِ خارجَ السّيارةِ لولا بعضُ النّاسِ الغادينَ الرائحينَ.
توفّى زوجُها عن ابنةٍ ولها من العُمرِ خمسُ سنينَ. وإذْ ورثتْ عن زوجِها ثروةً محترمةً، فآثرتْ أن تعزفَ عنِ الزَّواجِ لتقومَ على ابنتِها. ولمّا كبرتْ البنتُ تزوجتْ لترحلَ من بلدتِها في جنينَ إلى مكانِ عملِ زوجِها في عمّانَ. وكانَ على هذهِ الأرملةِ أن تزورَ ابنتَها وأحفادَها مرّتينِ كلَّ عامٍ، وممّا يقومُ عليهِ الودُّ ببعضِ مالٍ أو بعضِ هدايا تدقعُها إليهمْ.
واستكمالاً للفرحةِ التي أُقيمتْ في الفندقِ الفاخر في عمَّان، احتفالا بزواج ابنهِ الأولِ..وصلَ "طافشُ" إلى بلدتِهِ القريبةِ من الحدودِ الأماميَّةِ.وإذ أُقيمَ الحفلُ ذاتَ مساءٍ ثانيةً على مستوى شعبيِّ من الأقاربِ والأصدقاءِ الذِّينَ لم يحضروا حفلَ عمّانَ. وإذْ أغمضتِ الشَّمسُ عينَ الغروبِ فأقبلَ اللَّيلُ، فاستعدَّتْ جميلةُ لتُريَ أخاها ما تصنعُ من فرحةٍ، وما تنشىءُ من أهازيجِ شعرٍ؛ أَوَ ليستْ هيَ أختَهُ الكُبرى؟!. أوَ ليسَ هوَ أخاها الوحيدَ في عديدِ أخواتٍ؟! وها هيَ الطبلّةُ يُحمى جلدُها وتُقلَّبُ على زفيرِ نارٍ.
وقد كانَ في بيتِ أبيهِ الكبيرِ ساحةٌ وديوانٌ. أما السَّاحة فهي سماويَّةٌ، أحاطتها على أضلاعِ مربعٍ صالةُ معيشةٍ وغرفُ نومٍ. وأمّا الدِّيوانُ فهوصالةٌ كبيرةٌ ارتقى عن مستوى أرضِ السّاحةِ أربعُ درجاتٍ، فكانَ لاستقبالِ الضُّيوفِ منَ الرِّجالِ؛ وهو اليومَ للمُهنِّئينَ منهمْ؛ ففريقانِ عن يمينٍ وشمالٍ. أمّا الَّذينَ عن يمينٍ فجلسوا على الكراسي في ثلاثِ جهاتٍ لمربَّعٍ؛ وهمُ الشَّبابُ. وتوسّطتْ منضدةٌ مستطيلةٌ اعتلتها مزهريَّةٌ كبيرةٌ، فازدانتْ بالزُّهورِ . وأمّا الذينَ عن شمالٍ؛ فهم كبارُ الرِّجالِ والشُّيوخُ؛ فجلسوا على فراشٍ وثيرٍ، لفّتهُ المساندُ المستطيلةُ إلى الحائطِ؛ قشٌ مشدودٌ بخيوطِ الكتّانِ في حشوِ خيشٍ، فاحتوى قماشُ المُخملِ ما يزينُ الظّاهرَ من ملمسٍ ولونٍ. وفصلتْ بين الجالسينَ متكآتُ متعامدةٌ. و أمّا السَّاحةُ السَّماويَّةُ فعمرَتها النِّساءُ، وحيثُ كان الضوءُ خافتاً،وشرعتْ الطبلةُ في نقرٍ ثمَّ ضربٍ ثمَّ قصفٍ، فاشتدّتِ الأيدي صفقاً كفّاً بكفِّ، واهتززنَ يرقصنَ ويُغنِّينَ. وتوسّطتْ جميلةُ حلبةَ الرَّقصِ، واشتدَّتْ حماسةً في حركتِها وهزِّها ورقصِها وانطلقتْ الزَّغاريد وتناوبتُْ على خطوطِ فرحِها ووصلِها، وحتّى لكأنّها تقولُ في صدرِها "بِدّي أرقصْ واغنّي..تا يْضيعِ العقلْ منّي". ولمّا تغشّاها عرقٌ كثيفٌ واحمرَّ وجهُها وكلَّ متنُها، وظنَّتْ أنَّ كلَّ النّاسِ قد شهدوا فِعلَها و جمالّ صنيعِها، فتوقَّفتْ وتولَّتْ أُختٌ لها مقامَها، وتمنَّتْ لو جاءَ أخوها فاحتضنَها وقبّلَ جبينَها.
وقد كان كثيراً على مرورِ الأيامِ يوبِّخُ اختَه على فرطِ ذاتِ يدِها، إذ كانَ يبرِّرُ كلَّ ذلكَ حرصَهُ على مصلحتِها وخوفاً عليها من تقلُّبِ الأيامِ. وحتّى إذا سألَ السؤالَ الأخيرَ، فأجابتْ الإجابةَ الأخيرةَ، ما جعلَ السّيارةَ تتوقّفَ. وكانَ قدْ سألها يوماً: لمن ستتركينَ هذهِ الأموالَ؛ ألبني زوجِكِ؟!
وإذِ انضمَّتْ إلى حلقةِ المُغنِّياتِ والمُزغرداتِ، وحتّى إذا بردَ عرقُها وظنّتْ أنَّها لم تقمْ بواجبهِا كما يجبُ فآنستْ أخاها من بعيدٍ، حيثُ الضوءُ السّاطعُ الخارجُ من بابِ الدِّيوانِ، وكانَ يشيعُ أحدَ المهنِئينَ بالزَّواجِ- ومُتفكراً في الخمسةِ آلافِ منَ الدّنانيرِ التي دفعها للفندقِ- فانفتلتْ من بين النِّسوةِ إلى أخيها مسرعةً، منتظرةً جُنُباً في خَبْءِ العتمةِ ذهابَ الضَّيفِ، حتّى إذا انصرفَ الضَّيفُ امتدّتْ إلى حيثُ رآها أخوها ووقفتْ أمامَهُ، فخطا إلى الخارجِ مُقترباً ثلاثَ خطواتٍ حتى واجهها تماماً..وأخذتْ "تهاهي" أي تهزجُ مقاطعَ شعريةٍ شعبيةٍ، تتبعها زغرودةٌ واحدةٌ أو أكثرُ من نسوةٍ أُخرياتٍ من المشاركاتِ في الفرحِ؛ تقولُها النِّساءُ المُقرّباتُ عادةً لصاحبِ الفرحِ ابتهاجاً ومشاركةً فاعلةً!...فما أن انتهتْ من وصْلَتِها...حتى قالَ لها أخوها بصوتٍ لم يسمعه أحدٌ إلاها " طب..انقلبي.. انقلبي "...ثمَّ انفتلَ عائداً إلى الدِّيوانِ. فأفلتتْ الدُّموعُ من عقالِها..وانزوت إلى ركنٍ خالٍ غيرِ مسموعٍ،تجهشُ وتئنُّ حتّى إذا نفثتْ بركانَ صدرِها حمماً، كفكفتْ الدُّموعَ، وجفّفتِ اللُّعابَ النازفَ من فمِها بأردانِ ثوبها. وشدّتْ وجهَها وخدَّيْها بباطنِ كفَّيها..وتصنَّعتْ فابتسمتْ، ثم ضحِكتْ...وسارعتْ إلى النِّسوةِ، تُغنّي لكنَّ جسمَها الّذي باتَ فاتراً لمْ يقوَ على الرّقصِ من جديدٍ!