كان أبيض البشرة واللحية والعمامة وشاربه نحيف وساقاه دقيقتان وعضلات يديه بارزة ، مع اصابة قديمة يبدو أنها ضربة فأس أو منجل ، وابتسامته لا تفارق وجهه رغم المآسى البادية على ملامحه ، وكان طويلاً بانحناءة خفيفة فى ظهره ، وكان أبيض القلب ودوداً ، ويستقبلنى بترحاب وحفاوة لا توصف ، ويلزم زوجته الجميلة بصناعة أشهى غداء لى ، بعد أن يسألنى عما أشتهيه اليوم وعما أحب تناوله من طعام وشراب .
يذهب الريس صالح ، وهكذا كانوا ينادونه ، بنفسه ليتركنى مع نظرات زوجته التى لم أستوعبها أوأتجاوب معها فى حينها ، ليشترى لى المياه الغازية والمثلجات من كشك خشبى على الطريق الزراعى الجديد الموصل لقريته البعيدة حيث يقع بيته حديث النشأة .
أطلب منه ما أرسلنى أبى بشأنه ، فيعتذر منى وتحمر بشرته من الخجل ويكاد يبكى ، ويحدثنى كأننى رجل فى عمره ، فتجذبه زوجته المتصابية من يده الى غرفة جانبية ، وأسمع صياحها وأندهش لصمته ، ويخرج ممسكاً بيده نقوداً ورقية معروقة ، وتراوح زوجته النظر الينا فى حنق ، ويتعلل هو بسوء أحوال المعيشة وغلاء الأسعار وندرة المياه وجفاف الأرض وقلة المعين وكثرة الديون ، ويبتسم فى رضا ويقول : هذا هو حال الدنيا ، ويعدنى أن فى العام القادم وقت الحصاد سيعطينى القسم الأكبر من الدين المتبقى عنده لأبى .
تخبرنى فى خلواتنا الخاطفة بنظرات نهمة أنها لم ترزق بأولاد ، وتفتقد لدفء وحنان الأمومة ، وأترقب مستمتعاً بالمغامرة المدهشة قدوم الحاج صالح ، كما كنت أناديه ، وأتناول المياه الغازية والمثلجات ، وأتمنى وأنا أودعهما ألا يتمكنا أبداً من سداد كل الدين لأبى لأنعم برفاهية الغداء والمثلجات وملامح الحاج صالح الودودة ونظرات واشارات زوجته الغامضة .
هذا هو العام الخامس الذى أسافر فيه الى قرية صالح البعيدة بسيارتى البيجو الحمراء موديل 504 لتحصيل قسط الدين الذى أنسيته أبى بعد اقناعه أنه تم سداده كاملاً فى زحمة ديون أهل القرية .
وفى العام الثانى بعد وفاة الحاج صالح ، لم تكن هى فى حاجة لنظرات غامضة غير بريئة ولم أكن فى حاجة لتفسيرات ، وكان زوجها الجديد يتفهم جيداً مكوثنا بالساعات فى غرفة مغلقة ، وأذهب فى كل مرة لأجد كل شئ معداً قبل وصولى ، بما فى ذلك الغداء الشهى والمياه الغازية والمثلجات .
بدأ أبى يرتاب والنقود تتناقص ، وعندما نفذت تماماً بعد أن قام كل أهل القرية بسداد ديونهم ، طلبت منى اللجوء الى أبى أو سرقته ، فزوجها الجديد يجبرها على فعل ذلك معى ليسد ديوناً عليه .