نبالة!...
كان القيظُ شديداً بُعيدَ الظّهيرةِ، واقتربَ الفارسُ الذي يحملُ ابنتَهُ الصغيرةَ ذاتَ السنينِ السَّبعِ خلفهُ على فرسهِ المطهَّمِ وقدْ رافقهما في المسيرِ كلبٌ سلوقيٌ ضخمٌ. وإذ أخذَ العطشُ من الصَّغيرةِ مالا يحتملهُ فارسٌ مجربُّ فكيفَ بطفلةٍ صغيرةٍ، فقالت: أبتِ إنّي أتضورُّ جوعاً وأذوي عطشاً. قالَ الفارسُ: لا بأسَ عليكِ أي بنيةُ فإننا الآنَ على مقربةٍ من باريسَ وآنسُ على مسافةٍ الأكشاكَ التي تبيعُ الوجباتِ الخفيفةَ والعصائرَ. تقدَّم الفارسُ إلى الكشكِ الأوّلِ وهو أضخمُها وقدْ أحاطَ الخيشُ الثلجَ وحوضَ العصيرِ الزجاجيِّ الكبيرِ، حيثُ تندتْ قطراتُ الماءِ الباردِ حوافَّ الحوضِ العليا وشذا فوحُ البرتقالِ. حيا الفارسُ القائمَ على الكشكِ وقال:
أريدُ وجبتينِ خفيفتينِ وعلبتي عصيرٍ وقارورةَ ماءٍ. ردَّ صاحبُ الكشكِ التحيةَ بانقباضٍ وأضاف: لا يوجد عندنا ما طلبتَ، فانحرفَ الفارسُ إلى الكشكِ التالي الذي يقومُ عليهِ أربعينيٌّ وابنهُ، فأعادَ على صاحبِِ الكشكِ ما سألهُ للأولِ فردَّ مرحباً وقال: تفضلا فانزلا. فهرعَ إلى الدّّاخلِ وأحضرَ مظلةً ونصبَها أمامَ الكشكِ وطلبَ إلى ابنهِ أن يحضرَ خُواناً وكرسيينِ. أحضر الولدُ دلواً بهِ ماءٌ وقرَّبهُ للكلبِ، ووضعَ بعضَ العظمِ المجرومِ قربَ الدَّلوِ. سألَ الفارسُ الطفلَ: كم عمرُكَ يا بني؟ أجابَ الطفلُ:اثنا عشرَ عاماً يا سيِّدي. قالَ الفارسُ: ألا تذهبُ إلى المدرسةِ؟ قالَ الطِّفلُ: بلى يا سيِّدي ولكنني في الإجازةِ الصَّيفيةِ أساعدُ والدي. قال الفارسُ باسماً: باركَ اللهُ فيكَ يا بُنيَّ. وكانَ صاحبُ الكشكِ الأوَّلِ يرقبُ سيرَ الحدثِ عندَ جارهِ عن كثبٍ وهوَ يتصبّبُ عرقاً ويتبجَّسُ حنقاً ويتمتمُ متسائلاً مستنكراً: كيفَ يستقبلهمُ هذا الخائنُ؟!، واللهِ لأسمعنّهُ ما أكرهُ ويكرهُ!
طَعِمَ النَّزيلانِ وشربا،فلمّا فرغا وضعَ الفارسُ على الطّاولةِ قطعةً ذهبيةً، فاندفعَ صاحبُ الكشكِ إلى الطّاولةِ وأعادَ القطعةَ للفارسِ قائلاً: أنتَ ضيفٌ هذهِ المرَّة، وستدفعُ في المرَّةِ القادمةِ. ذهبَ الفارسُ إلى الولدِ فدفعها إليهِ، وحاولَ الوالدُ أن يعترضَ فقال الفارسُ مبرراً: هذهِ ليست لكَ إنما هي للولدِ!
صَعِدَ الفارسُ وابنتَهُ على ظهر الحصانِ وغادرا ولم ينظرْ إلى الوراءِ. وأقبلَ صاحبُ الكشكِ الأولِ وهو يتميّزُ غيظاً و قدْ لمعتْ قطعةُ الذّهبِ في عينهِ. وسمعَ الفارسُ أصواتاً تتعالى: خائنٌ..ضيفٌ..لا يجبُ أن تؤذي جارَكَ..عابرُ سبيلٍ...عدوٌّ...صاحبٌ..وطنٌ للجميعِ..حتى خفتتْ تماماً.
قال الفارسُ لابنتهِ: ما رأيُكِ بالفتى ابنِ صاحبِ الكشكِ. قالت: رأيتُ أنّهُ كانَ عطوفاً على الكلبِ إذ قدّمَ لهُ الماءَ والعظمَ. قال أبوها: ألا تظنينَ أنها صفةُ نبالةٍ في الفتى. قالت: أواهٍ يا أبتِ كم تضخِّمُ الأمورَ. عجباً كيفَ حوَّلتَهُ إلى نبيلٍ. قال: ألم تلاحظي بعضَ أطفالِ النبلاءِ يلاحقونَ الكلابِ بالحجارةِ حتى يُدمونها. قالت: هو يحملُ بعضَ صفاتِ نبالةٍ، ولكنَّهُ ليس نبيلاً تماماً. صمتَ كلاهما للحظةٍ ثمَّ قالت متفكِّرةً: لماذا استقبلنا صاحبُ الكشكِ الأوَّلِ بذاكَ الجفاءِ. قال أبوها: كما أنَّ النبلاءَ ليسوا سواءً في إنسانيَّتِهم، كذلكَ الأمرُ لبسطاءِ وعامةِ النّاسِ. قالتْ مؤكِّدةً: إذنْ صاحبُ الكشكِ الثّاني بهِ بعضُ صفاتِ النَّبالةِ. قال: لماذا تكابرينَ؟! بل هوَ نبيلُ حقاً. قالت: حتى وإنْ لمْ يكنْ يملكُ أرضاً ولا فرساً ولا كلباً. قالَ مؤكداً: حتى وإنْ لم يمتلكْ ولا درهماً واحداً. قالت وقد بدتْ مستسلمةً: يبدو لي بعضُ كلامِكَ مقنعاً. قال مداعباً: ماذا لو تقدّمَ ذاك الفتى لخطبتكِ إذا أصبحَ شاباً ؟!. فثارتْ وجعلتْ تضربُ كتفي أبيها بقبضَتيْها بقوةٍ وهي تقولُ: لقدْ جننتَ يا أبي..لقدْ جننتَ يا أبي...سوفَ أحدِّثُ أمي بالأمرِ. قال: أجلْ.. أجلْ..فأمُّكِ ادّخرتكِ لابنِ أخيها المعتوهِ!..قالتْ: واللهِ لأحدثنَّها كلَّ كلمةٍ قلتها. قالَ ضاحكاً: لا يا ابنتي..أنتِ أعقلُ من ذلكَ!...قالت: لم يبقَ لكَ إلاّ أنْ تتهمَني أيضا بالجنونِ!
...فانفجرَ ضاحكاً ثمَّ سارا صامتينِ حتى وصلا طرفَ المدينةِ الآخرَ..
لصُّ الدجاجِ "ستيفُ" خرجَ من السِّجنِ مؤخراً . ذلكَ أن الثورةَ الفرنسيَّةَ أطلقتْ سراحَ جميعِ المعتقلينَ من سجنِ الباستيلَ...بما فيهم اللصوصِ وقطّاعِ الطُّرقِ. وقدْ سرتْ فوضى في مدينةِ باريسَ ليس لها حدودٌ...وخاصةً التي قامَ بها روّادُ السُّجونِ من ذوي المحكومياتِ العاليةِ. والذينَ خرجوا ناقمينَ على المجتمعِ كلِّهِ...وبخاصةً على أولئكَ الذينَ ما زالوا يعتقدونَ أن دماءَ النبالةِ ما زال يجري في عروقِهم!
وقضتْ الثورةُ أن يأخذَ القائمون عليها أكثرَ من نصفِ إقطاعياتِ النُّبلاءِ...فيوزعونها بعدلٍ على عامةِ النّاسِ الذينَ كانوا يعملونَ مزارعينَ فيها أصلاً.
ولمّا لم يكن "ستيفُ" من هؤلاءِ، نظراً لامتهانهِ سرقةَ الدَّجاجِ قبلَ دُخولِهِ السِّجنَ...فقدْ نقمَ على القائمينَ على الثورةِ والمناوئينَ لها من الإقطاعيينَ على سواءٍ. وإذْ طافَ السُّوقَ يبحثُ عن عملٍ فلم يجدْ، فجلسَ يوماً إليهِ صديقُه "بيتر"، وهوَ لصٌ آخرُ من لصوصِ الدّجاجِ. إذْ جلسا على حجرينِ في جانبِ الرَّصيفِ متجاورينِ...وأخذا يتذاكرانِ مقالبَ الحياةِ باللُصوصِ. وإذا كفّا عن الحديثِ الحميمِ هذا بينَهما...أخذا يغمزانِ المارةَ ويلمزانِ بساقطِ الكلامِ . ولمّا كانَ المارَّةُ من النّاسِ يعرفونَ حكايتيهِما، فكانوا يعرضونَ عنهُما صفحاً، كما يعرضُ الحليمُ عن السّفيهِ. قال ستيفُ: واللهِ إن السِّجن لأرحمُ ممّا نحنُ فيهِ...
قالَ بيترُ: هذا صحيحٌ ...لا نكادُ خارجَ السِّجنِ نجدُ طعاماً نأكلُهُ إلاّ إذا تسوَّلنا...
قالَ ستيفُ: أتذكرُ كيفُ كنّا نتذمّرُ على طعامِ السِّجنِ ونلهجُ بالشَّكوى!
بيترُ: أجلُ ...أذكرُهُ ..أخي ستيفُ...أذكرُ ذلكَ النَّعيمَ ولا أنساهً!
قالَ ستيفُ: وما أخبارُ مهنةِ الصَّنعةِ لديكَ!
قالَ بيترً: ألا أُفٍ لها من صنعةٍ،بعد أن امتلكَ عامَّةُ النّاسِ الأرضَ أصبحوا لاينامونَ في اللَّيلَ إلا بنصفِ عينٍ، بعدَ أن كانوا عندَ سادتِهم يغطُّونَ في نومٍٍ عميقٍ بسببِ عملِ النَّهارِ الشّاقِّ المضني فلا ينتبهونَ إليَّ إذا دخلتُ أو خرجتُ!...
قالَ ستيفُ: كنتُ سابقاً إذا دخلتُ إلى حيثُ قنِّ الدَّجاجِ "أُقاقي"، وإذا خرجت "أُقاقي".أمّا الآنَ فلا تنجحُ حيلتي!
قالَ بيترُ ساخراً: تحسنَّت عندَهمْ حاسَّةُ التَّمييزِ بينَ الأصيلِ والدَّخيلِ...فيرجمونَ الدَّخيلَ بالحجارةّ!
قالَ ستيفُ جادّاً: أفكِّرُ في العودةِ إلى السِّجنِ!!
قالَ بيترُ مسارعاً: خذني معكَ...ولكن كيفَ!
ستيفُ: كما تراني في يوميَ هذا منذُ أن خرجتُ من السِّجنِ، فمنذُ شهورٍ وأنا أتحرَّشُ في هؤلاءِ النّاسِ المتبلِّدي الإحساسِ. يمرّونَ أمامي أرشقُهمْ بسبابي وشتائمي، فلا يرتدُّ لهم طرفٌ ولا تصلبُ في ظهورهمُ الحميَّةُ!
من بعيدٍ...رأى ستيفُ الفارسَ القادمَ على الحصانِ المطهّمِ العريضِ الواجهةِ والذي يسيرُ خبباً،وكلباً أسوداً يعدو جانباً مواكباً حركةَ الحصانِ. وكانَ الحصانُ يحملُ فارسَهُ كما يحملُ طفلٌ صغيرٌ ريشةً...
قالَ ستيفُ: ها قدْ جاءَ الفرجُ!
بيترُ: ويلكَ من تقصدُ...هذا أحدُ النُّبلاءُ!
ستيف: إيّاهُ أعني!
بيترُ: ويلكَ إنْ استلّ سيفَهُ فنحنُ صرعى حماقتِكَ.
ستيفُ: لا تقلقْ فليسَ نبلاً أن ينازلَ أحمقينِ تافهينِ مثلنا!
ولمّا اقتربَ الفارسُ وأوشكَ أن يجاوزَهما ...قالَ ستيفُ بأعلى صوتهِ: حمارٌ يركبُ بغلاً...
توقَّفَ الفارسُ بفرسهِ محاذياً دونَ أنْ يلتفتَ إليهِما، وخلع قفّازَهُ ورماهُ بإشارةٍ إلى جهةِ ستيفَ، ثم تابع سيرَه...فانقضَّ الكلبُ السُّلوقيُّ على ستيفَ بينما فرَّ بيترُ على بعدٍ فرْقاً وقد قتلهُ الهلعُ مما رأى وسمعَ من فعلِ الكلبِ...وقدْ جعلَ الكلبُ يعضُّ ستيفَ ويُدمي.. وستيفُ يصرخُ ويبكي ويستغيثُ بيبتر. وحتى إذا توقفَ الفارسُ بحصانهِ كفَّ الكلبُ. وعادَ بيترُ إلى حيثُ صديقِهِ المُدمى يخففُ عنهُ وقالَ:
يا ستيفُ ياصديقي ...إذا كانَ الصُّراخُ من حديدٍ ...فالسكوتُ من ذهبٍ...والهروبُ نجاةٌ!
ردَّ ستيفُ: أنتَ لستَ بصديقٍ...انظرْ...انظرْ إلى ذلكَ الكلبُ..فهوَ لصاحبهِ أوفى منكَ!
وعادَ الكلبَ حاملاً قفازَ سيِّدِهِ ...حتى إذا وصلَ إليهِ قفزَ في الهواءِ مناولاً الفارسَ قفّازَهُ فالتقطَهُ. ومدَّ الفارسُ يدَه اليسرى إلى جيبِ سترتهِ الجانبيِّ. وأخرجَ قطعةً ذهبيةً ألقاها للكلبِ. وعاد الكلبُ مسرعاً إلى ستيفَ فهلعَ... وفرَّ بيترُ ثانيةً وجعلَ يرقبُ الموقفَ في هلعٍ عن جُنُب. واقتربَ الكلبُ من ستيفَ المرتجفِ، وألقى القطعةَ في حجرِ ستيفَ فكفكفَ وامتلأ وجههُ فرحَاً بعدَ أن امتقعَ لمّا ارتدَّ الكلبُ عائداً إلى صاحبهِ. وعادَ بيترُ إلى صاحبهِ وقد لمعتْ عيناهُ بقطعةِ الذَّهبِ، وأكملَ الفارسُ المسيرَ: فارسٌ وابنةٌ و حصانٌ وكلبٌ، وقدْ سألتهُ ابنتُهُ:...؟!