الأستاذ الـمُفكِّر بهجت الرشيد حفظه الله؛
بارك الله فيكم على هذه المقالة الشيِّقة، وتقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال.
ما زال موضوع الداروونية والإلحاد يتعاظمُ خطرُه رُغم ما كانَ يُظنُّ من أنَّ التنوير العلمي الحقيقيّ كفيلٌ بنسف هذه الخرافات والترَّهات من جذورها؛ ففي الغرب ما زالت الأوساط الأكاديمية – في كثير من الجامعات المرموقة – تتعامل بدكتاتورية غريبة عن روح العلم مع الطُّروحات التي تناقض التطوُّر ولو على استحياءِ، والأدهى أنَّ (الموضة) تغزو الأوساط الفكرية في جامعاتنا فيما وقفتُ عليه بنفسي، ومن خلال أحاديثي الفكرية مع اثنين مع أكبر المهتمين بالموضوع: المفكر الكبير العالم الخلوق الدكتور عمرو شريف، والدكتور الشاعر الأديب سعد الدين المكاوي. وهما من القائلين بالتطوُّر الموجَّه، الذي يُعدُّ فيه التطوُّر أداةً في يد الخالقِ؛ بمعنى أنَّ التطوُّر قد حدث بالفعل ولكن بتوجيه وتصريف من الخالق عزَّ وجلَّ، فهو سببٌ وليس مُسبِّبًا. ورأيهما – ومن على مذهبهما - يمثِّل الجانب المعتدلَ الذي يوظِّف ما صحَّ من أدلَّة التطوُّريين في سياقٍ مقبولٍ ومفهومٍ. وأمَّا أرباب المذهب الآخر الإلحادي الصِّرف فموجودون، وقد ضربتُ صفحًا عن ذكر الأسماء لاعتباراتٍ أدبيةٍ.
وما زلتُ أقول: إنَّ المنظومة الفكرية في جامعاتنا وأوساطنا العلمية عاجزة عن مواكبة الحدث والأخذ بزمام المبادرة، ولي في ذلك مقالٌ في سياقٍ مختلفٍ بعض الشيءِ ولكنَّ الفكرة الرئيسة التي أريد أن أُعرب عنها موجودةٌ فيه، ولذا أُوردُه بنصِّه:
ليلة القدر ووكالة ناسا
د.محمود روزن
تفتحُ بريدك الإلكتروني لتفاجأ بعشرات الرسائل التي تحمل عنوان: «حقيقة ليلة القدر التي أخفتها ناسا منذ عشر سنوات».
لم أنتظر حتى أقرأَ بقية الخبرَ لأستدعي الصورة النمطية لمـُعظم مَن يتكلَّم اليوم في الإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة، تلك الصورة التي يمكن لخيالِكَ أن يرسمها بسهولة: رجلٌ متكئٌ على أريكته بكل أريحيةٍ يأتيه خبرٌ عن اكتشافٍ علميٍّ، فيردُ مباشرةً: وما الجديد في هذا؟ لقد توصَّل القرآن لهذه الحقيقة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا!!!
إنَّ أهمَّ وجوه إعجازِ القرآن الكريم يا سادة؛ هو الإعجاز التشريعي، والمقصود بالتشريع بمعناه الواسع كل ما جاء به الشرع من توجيهاتٍ سامية ينضبطُ بها السلوك على مستوى الفرد والمجتمع، فهل اهتممنا بإظهار هذا الإعجاز بصورةٍ عَمَليةٍ تطبيقيةٍ؟ إنَّ واقعَ المسلمين يجيب بالنفيِ. المفارقةُ الـمُحزنةُ أن ينحصرَ مجهود علماء أمة (اقرأ) في إثبات أنَّ (ناسا) قد أخفت عنَّا الحقائق التي كانت ستقلب مسار التاريخ لو أعلنت عنها!! فنقول: لماذا لا نتوصَّل نحنُ أوَّلًا إلى طريقةٍ علمية لإثبات حقيقةٍ مذكورة في القرآن، وموصوف علاماتُها في السنَّة الـمُطهَّرة؟! أهناك ما يمنعُ ذلك؟ نعم؛ يمنع من ذلك التواكل الذي اعتدنا عليه حتَّى صارت شعوب أمَّة (اقرأ) في ذيل الشعوب من حيث الإنتاج العلميِّ، وفي رأس القائمة كشعوب مستهلكة.
يا إخواني؛ ها هو الفضاء أمامكم، أثبتوا أنتم ليلة القدر علميًّا، وتأكدوا أنَّ (ناسا) لا تحتكر الفضاء، ولكن لا تتوقعوا أن يُسلم الكوكب كلُّه! فالله – عزَّ وجلَّ – يقول : (إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمة ربِّكَ لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم). الحرُّ تكفيه الإشارة، لذلك اكتفى القرآن بإشارات بسيطة وواضحة يستطيعُ كلُّ أحدٍ اكتشافها بسهولة، فقال تعالى: (وفي الأرض آياتٌ للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟).
أمَّا الذي يُعوِّل على الإعجاز العلميِّ ودوره في إيمان الناس يحمِّل الأمر ما لا يحتملُ، ويبني في الوهمِ قصورًا، والكفَّار بعدما طلبوا الآيةَ الباهرةَ والمعجزةَ الخارقةَ فرأوها بأمِّ أعينهم انصرفوا قائلين: سَحَرَنا محمد!! فقال الله واصفًا إياهم: (وإن يروا كلَّ آية يُعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمِّر).
انظر إلى الجهود الهائلة والأموال الطائلة المنفقة في جمعيات الإعجاز العلميّ ومؤتمراته؛ لو صرفناها في الدعوة الحقيقية لكان أجدى لنا وأنفعَ. وقارنْ بإنصافٍ بين مجهودات رجلٍ واحدٍ في الدعوة ألا وهو فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السميط؛ حفظه الله وشفاه [وقد كان حيًّا رحمه الله وقتَ كتابة هذا المقال في رمضان قبل الماضي، وقد توفَّاه الله فعليه سحائب الرحمة والمغفرة] بمجهودات كلِّ علماء الإعجاز العلميّ في كلِّ العصور. الشيخ عبد الرحمن أسلم على يده – في بعض التقديرات – أحد عشر مليونًا من الأفارقة. ولو حذفنا للمبالغة نصيبها فسيظلُّ الرقم هائلًا يعجزُ العقل عن مُجرَّد تخيِّله! فكم واحدًا أسلمَ بسبب الإعجاز العلميّ؟!
الإسلام يكسب أتباعًا بالدعوة الحكيمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسنُ، على غرار ما فعله الدكتور جعفر شيخ إدريس في كتابه العلمي الفلسفيّ الأروع "الفيزياء ووجود الخالق". ولكن كم واحدًا يدخلون الإسلام بسبب قضايا الإعجاز التي تُلوى فيها أعناق الآيات والأحاديث لتنطق بما يريدون؟!
قد يقول قائل: ولو لم يهتدِ إلا واحدٌ فقط بالكلام في الإعجاز العلمي فَلَأنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ من حمر النَّعم؛ فأقول: هذا كلامٌ صحيح، ولكن ما دورُنا في الإعجاز؟! القصة كالتالي:(فُلانٌ) من العلماء اكتشف كذا، ثم عَرَف أنَّ القرآن تكلَّم عن هذا الاكتشاف في عصرٍ ليس من المعقول أن يصل فيه بشرٌ لهذا العلم، فيُسلِم العالِم، فأين دورنا إذًا؟ وهل يستحقُّ الأمر كلَّ هذه المعاهد والمراكز والمؤسسات والبرامج المتلفزة والموسوعات والكتب التي ينحصر دورها في النقل الحرفيِّ من بعضها على طريقة (كوبي، بيست)؟ أما كان من اللائق أن تُوحَّد تلك الجهود في مؤسسة واحدةٍ تموِّل الأبحاث العلمية الجادَّة في قضايا مُفيدة تتعلق بالإعجاز ثمَّ ترجمة نتائج تلك الأبحاث إلى اللغات المختلفة بأسلوبٍ يخاطب العقل والوجدان؟ أظنُّ أننا بهذا فقط يمكننا أن نقول: إننا صنعنا شيئًا ذا بال في هذا المجال.
بعض المراكز البحثية الجادَّة أخذت على عاتقها إجراء عدة أبحاثٍ في المقارنة بين الذبح الإسلاميّ وغيره من طُرق الذبح الـمُتَّبعة في بلاد أخرى كالصعق الكهربي وغيره. وقد جاءت النتائج لتؤكِّد عدةَ حقائق أهمها أن اللحم الناتج بالطريقة الإسلامية يكون أكثر جودة وتقبُّلًا من المستهلكين، ويكون أقلَّ عُرضةً للتلوث الميكروبي، فضلًا عن أنَّه لو طُبِّق بالطريقة الصحيحة فسيكون أكثرَ رَحمةً بالحيوان من الطرق الأخرى. فهذه النوعية من الأبحاث تُثبتُ الإعجاز العلميّ التشريعيّ من ناحية، ومن ناحية أخرى تُفيد اقتصاديًّا وصحيًّا، وتدفع المبتكرين إلى اختراع خطوط آلية تتوافق مع طريقة الذبح الإسلامية. وقد تَضاعَف الطلب في أمريكا على المذبوحات بالطريقة الإسلامية حتى من غير المسلمين بعد الوقوف على نتائج تلك الأبحاث.
والآن هل يعرف أحدٌ هذه المؤسسات وهؤلاء الباحثين؟ أظنُّ الإجابة لا؛ فهؤلاء مغمورون لا يُقارنون شُهرةً بعلماء الأضواءِ الذين حصروا دورهم في لَيِّ أعناق النصوص لإثباتِ أنَّ كلَّ اكتشافٍ علميٍّ موجودٌ في القرآن! ولكن أيُّهم أكثرُ نفعًا للدين وإثراءً للعلم؟