صياد .. للأديبة ربيحة الرفاعى
أُحِبُّها ، وأَعلَمُ أنَّها تُحِبُّني رُبَّما فَوْقَ ماحَلُمْتْ ، تّنْتَظِرُ بِشَوقٍ إِطْلالََتي ، هَمْسَتي ، مُرورِيَ السَريعِ بِها بَينَ مَحطَّاتيَ الكَثيرَةِ وشُؤونِيَ التي جَعلتُها -دائِما- آخِرَها ، لِثِقَتي الأَكيدةِ منْ حُبِّها ، ويَقيني أَنَّها ستَفرِض على نفسِها تَفهُّم الوَضْعِ واستيعابَ الظَّرفِ كَأبْدَعِ ما تَكونُ الأُنْثى ، ولم تُخَيِّب هِيَ ظَنّي ، وَلكِنّي خَيَّبتُه ، لَم أَستطِع يَوْماً خَلْعَ بزّةِ الصَّيادِ الّتي وُلِدْتُ أَلْبَسُها ، فَاَنا رَجُلٌ يَسْتَهويني الجَمالُ ، وَتَرْتَمي رُوحِي راغِمَةً عَلى أعْتابِ النَّظَراتِ الفَاتِنَةِ بَيْنَ سَيْفِ رِمْشٍ أّحدُّ مِن أَن يَتَجاهَلَهُ رَقِيقُ قَلْبٍ مِثْلي ، وَشاطِيءِ جَفْنٍ يُغرِي بِاقتِرابٍ ، وَيُلْقِي في خِضَمِّ عُيُونٍ هِيَ البَحْرُ أَيّاً كانَ لَونُها ، أَهْرُبُ مِن بَيْنِ يَدَيْها بِأَلْفِ حُجَّةٍ وحُجَّةٍ ، وتَخْتَبِيْ في ضَمِيرِي أُنْثَى تَقْبَعُ في زَاوِيَةٍ ما مِنْ كُلِّ حُجَّةٍ جَديدَةٍ ، وأَتَصَوَّرني أّقنَعْتُها في كلِّ مرَّةٍ ، فأَجِدُ مِنْها تَلْمِيحاً واهِياً تُوصِلُهُ مُتَرَدِّدَةً رُبَّما بينَ خَوْفِها مِن انزِعَاجِي وحِرْصِهاً عَلى لَفْت انتِبَاهِي ، فَأَتَجاهَلُهُ وكَأَنّما أَمْحُوهُ بِتَجَاهُلِه ، وقَدْ تَجاهَلَتْ وتَعامَيْتُ ، وَ تَحَمَّلَتْ وَتَمادَيْتُ ، وَلَمْ أَلْحَظِ في ضَجِيجِ أَيّامي واهتِمَامَاتي أنَّ ذلِك َالبَريق في عَيْنيْها حِينَ أُمْسِكُ بِوَجْنَتيْها بَيْن كَفَّيَّ ، بّدأَ يَخْفُتُ يَوماً عَن يَومْ.
حينَ هَرَبْتُ مِنْها فِي لِقَائِنا الأَخِيرِ وَدَّعَتْنِي بِتَبَرُّمٍ لَمْ تُحاوِل إِخفَاءَهُ ، وَقَرَّرتُ أنْ ألْعَبَ دَوْرَ الغَاضِبِ المُتَأذّي عِنْدَما أعُودُ ، لكنَّها لم تَكُن حيْثُ انْتَظَرْتُ ، نَادَيْتُها فَلَمْ تُجِبْ نِدائِي ، وعَدَوْتُ مَذْعُوراً أَبْحَثُ عَنِّي، عَنْ صَدْرِهَا يَحْتَوِينِي وَحَنَانِها يَلُفُّني ، قَلَبْتُ عَالَمِي رَأْسَاً عَلى عَقِبْ ، فَوَجَدْتُها في زَاوِيَةٍ أسْكَنْتُهَا فِيهَا ذَاتَ حُلُمْ ، وَجِيدَةً تَجُوبُ بِعَيْنَيْهَا الفَضَاءَ حَوْلَها بَحْثاً ظَنَنْتُهُ عَنِّي، فَاقْتَرَبْتُ وَلَكِنَّها أَبْعَدَتْنِي :
إذْهَبْ أَرْجُوكْ ... فَأنَا ما زِلْتُ أَبْحَثُ عَن ثِقَةٍ بِكَ أحْتاجُها لِأَسْتَمِرّ.
رؤية نقدية بقلم / هشام النجار
لماذا الصياد تحديداً وبهذه المعالجة الشاعرية الحزينة كأنها مرثية لبكاء الحب الضائع وفقدان الصدق والوفاء ؟
لابد من الاجابة على هذا السؤال الذى أظنه مفتاح الدخول الى النص وكلمة السر لفهم قضيته الأساسية وكشف اشاراته الخفية .
نلاحظ أن الصياد هو الذى يتحدث هنا وهو الذى يقص علينا الرواية ، واذا كنا نشاهد الأحداث من خلال فيلم سينمائى فلن نرى طوال العرض سواه ، فيما عدا مشهد يتيم حاسم تعلن فيه البطلة – الفريسة – الانسحاب والهروب – يمثله السطر الأخير فى القصة - ، بالرغم من أن القصة والأحداث والمؤثرات البصرية والسمعية والديكورات والبروفات والسيناريو والرسالة والمضمون جميعها كانت من أجل البطلة ولسرد وعرض معاناتها .
تلك هى الاشارة اذاً نقترب من التقاطها ؛ فالصياد متصدر الأحداث ومهيمن على المشهد وهو الظاهر فى الصورة طوال الوقت ولا نرى ونحن مارون عابرون بجوار البحر الا ظهره وسنارته مع الاهمال المتعمد للنظر أو التدقيق فى ملامح وجهه ، ويستمر الاهتمام بالصياد وبمهاراته وطريقة جلوسه أو زاوية وقوفه وصبره على فريسته ويحرق هذا الظهور معظم المساحة الزمنية للعرض ، أما السمكة المسكينة فى البحر فلا تظهر الا فى مشهد الخديعة والافتراس أو الهروب .
هكذا فالعاشق المتلون المخادع يفرض نفسه ويتصدر مشهد السرد ويتم حرمان بطلة الأحداث الحقيقية من البوح ، انها أنانية الصياد وهيمنته على المشهد من بدايته لنهايته ، منذ أن وقعت أعيننا عليه بين الصخور على شاطئ البحر أو من فوق الجسر الخشبى أو الحديدى فى بداية الدوران ، مروراً بتصدر ظهره فى مقابلة المياه مشهد الرؤية وانتهاءاً بشغفنا والحاحنا – نطل من نوافذ عرباتنا - لكى ينتهى المشهد سريعاً وأمنياتنا لتنهى الفريسة المستهدفة سيطرة الصياد على الرؤية والأحداث لتقول كلمة النهاية فى مشاهد قليلة لكنها الأكثر تأثيراً وروعة واشباعاً ، بعد جوع طويل ممتد مع جفاف ورتابة وكآبة مراوغات الصياد وخداعه وطمعه وعدم اكتراثه بمشاعر فريسته ولا بمصيرها .
تلك الصورة العامة بالفكرة الأساسية للقصة واحترافية نقلها وعرضها كما هى تقريباً بعد التقاطها من على شاطئ البحر هى أروع وأدق ما فى القصة من ابداع .
فضلاً عن أن أديبتنا القديرة هنا تلفت انتباه المختصين الى أن " الصياد " غالباً ما يأتى فى سياق المشاعر والمعالجات العاطفية والانسانية مستهجناً مذموماً مستقبحاً ، فلم يستحضره أو يستدعيه شاعر أو مبدع أو أديب الا مستبيحاً للبراءة ومنتهكاً للسعادة قاتلاً للنقاء والصدق ، لدرجة أن أمير شعراء الرومانسية والحزن بدر شاكر السياب عند أراد استدعاء عزرائيل لنعاين بشاعة انتهاكه للسعادة والطفولة والحياة والأمل استدعاه فى صورة " صياد مستبيح مخادع ، فقال رحمة الله عليه فى " ثعلب الموت " :
كم يمض الفؤاد أن يصبح الانسان صيداً لرمية الصياد
مثل أى الظباء أى العصافير ضعيفاً
قابعاً فى ارتعادة الخوف يختض ارتياعاً لأن ظلاً مخيفاً
يرتمى ثم يرتمى فى اتئاد
ثعلب الموت فارس الموت عزرائيل يدنو ويشحذ
النصل . آه
منه آه يصك أسنانه الجوعى ويرنو مهدداً يا الهى
ليت أن الحياة كانت فناء
قبل هذا الفناء هذى النهاية
ليت هذا الختام كان ابتداء
واعذاباه اذ ترى أعين الأطفال هذا المهدد المستبيحا
صابغاً بالدماء كفيه فى عينيه نار وفى فكيه نار
كم تلوت أكفهم واستجاروا
وهو يدنو كأنه احتث ريحاً
مستبيحاً
مستبيحاً مهدداً مستبيحاً
هى الاستباحة التى تطغى على شخصية " الصياد " وتتحكم فى تصرفاته ، يستبيح خصوصية الفريسة ويراقبها ويتلصص عليها ويستبيح حقوقها فى الحياة وينسفها تماماً اشباعاً لرغباته وارضاءاً لمصالحه ، وهى استباحة البراءة بالمراوغة واستباحة النقاء والوفاء بالخديعة واستباحة الثقة بالتلون والتعددية .
استباحة وتهديد للمشاعر الانسانية الراقية بأن " يصبح الانسان صيداً لرمية الصياد .. مثل أى الظباء أى العصافير ضعيفاً .. قابعاً فى ارتعادة الخوف يختض ارتياعاً لأن ظلاً مخيفاً
يرتمى ثم يرتمى فى اتئاد " ، ظلاً مخيفاً يهدد الحياة أو يهدد المشاعر أو يهدد السعادة .
اختيار " الصياد " كان دقيقاً جداً وفلسفياً ، فمن عادته عدم الاكتراث بمشاعر الضحية ، ومشاعره هو باردة بل تكاد تكون ميتة ، ويصطاد العصافير البريئة ويحبسها ولا يلين قلبه لنظراتها المتوسلة ، فلا قلب هنا مع طغيان جوع البطن ، ليذبحها وينظفها ويتعشى بها وينام .
هنا الاتقان فى اختيار الأفعال الملائمة لتلك الحالة من تجاهل الآخر ودفس مشاعره " أتجاهله ، أمحوه ، تجاهلت ، تعاميت ، تماديت " ، بعد تقديمه مباشرة على شاشة العرض بظهره فقط متعالياً صامتاً غامضاً مترقباً مخادعاً مزهواً بقدراته محباً لذاته طماعاً مغروراً " تنتظر بشوق اطلالتى ، همستى ، مرورى السريع بها بين محطاتى الكثيرة وشئونى التى جعلتها دائماً آخرها " .
ونصل بعد ترقب وانتظار – رغم قصر مشاهد المراوغة والخداع - الى مشهد النهاية وهو المشهد الوحيد فى كل سيناريوهات ووقائع الصيد الذى تظهر فيه البطلة الضحية ؛ اما مهزومة معلقة بالسنارة ويكاد الصياد يطير فرحاً بنجاح خطته ودقة تنفيذها ، أو هاربة فى اللحظات الحاسمة ويكاد الصياد يموت كمداً من ضياع صيد ثمين عليه ، ويترقب المشاهد والمتلقى هذا المشهد الأخير فى شغف ولهفة ، ولا شك أن الغالبية تتعاطف مع الضحية ، لكن ويا للعجب تجد البعض يميل للصياد الماكر ويتمنى رؤية السمكة منهارة بين يديه .
تشككت اذاً فى نواياه ولم تنطلِ عليها خدعه ، وحسمت أمرها سريعاً وأفلتت نفسها من الشباك قبل أن يحكم غلقها عليها ويتمكن منها بالرغم من الامعان فى الكذب واللعب بالمشاعر " وقررت أن ألعب دور الغاضب المتأذى عندما أعود " ، وربما كان صيد حياته الأشهى والأروع ، لكن فى ممارسات هؤلاء ما يفقد الثقة ويوجب الحيطة والحذر .
ويتفاعل المتلقى ويتصاعد تفاعله ويتضاعف ويصل لمستوى الذروة مع اقتراب النهاية ومشهد القنص الأخير بعد الكر والفر والمناورة والهروب والمراوغة والفرار بعد أن كادت فى البداية تقع فى الفخ بهذا التصاعد والترتيب والتدرج فى مستويات مدلولات اللغة وأفعالها التى تضج بالحركة والمناورة " ستفرض على نفسها تفهم الوضع – ولم تخيب هى ظنى – البريق فى عينيها يخفت – ودعتنى بتبرم – لم تكن حيث انتظرت – اقتربت – أبعدتنى " .
انها فرحة حقيقية عندما نرى انتصار الضحية الضعيفة – وقد يكون الصياد فى بعض الوقائع امرأة والضحية رجلاً – وأشهى من أكل لحم البحر والطيور رؤيتها تطير وتسبح وتنعم بالسعادة والحرية والحياة .
وما أروع أن يكون الانسان المستهدف بالقنص من مشاعره أعظم مكراً وخداعاً من القناص ذاته ، فهى – أو هو – تبقى لديه الأمل ولا تقطع العلاقة من الجذور ، أو هى تتظاهر بذلك ، لتخلق لنفسها مساحة تمكنها من الهرب الكامل من أرضية نفوذه " اذهب أرجوك .. فأنا ما زلت أبحث عن ثقة بك أحتاجها لأستمر " .
وتستمر القصة ، فتلك ليست النهاية ، لكننا مع براعة البطلة نتوقع اتجاه الأحداث لصالحها ، فقد يذهب هو ويعود بثوب آخر غير ثوب الصياد ، وبقلب محب صادق وفى مضحى مخلص ، يمنحها الثقة لتستمر .