هيكل الغروب
ريبرعادل أحمد
أعلن عن لحظة صمته وكأنه أطل غريباً,أخذ يفتش آسراًعن صدى سحرها بين عينيها ,آثر الليل أن يبعثر حبره في مداد أحزانه فأخذ يكتب عن غياب صديقته فراح يقول:(عنك لم أكتب قبل هذه المرة ,لذا لا أعلم إذا كان اختياري للتوقيت مناسباً لعلي لم أنسَ شيئاً إزاء ما يتعلق بنا ,كنت آمل لو عدت ِ بعد هذا الغياب لا مبرر لصمتك ,لقد خبرتك قويةً وعرفتك صابرة مادخل اليأس قلبك ’,صمتك كان مثيراً للآخر ,شغف أنا لسماعك بعد غياب,وجهك معبد حزن قديم ,لكنه النور الأزلية والحب,صديقك عاني في نفس منفاه القديم لاتجاوره البسمة ولاتزوره الحيوية,أهجس باسمك,كم أشتاق عودتك )
رسالته كانت مشجية كتبها وهو يحدق في بعيد بامتداد الليل وسواد زرقة البحر,كان قد عهدها أنثى كلاسيكية تنتظر من محبها فرصة البدء في محادثتها,وحين تحدثه تبتعد عنه خطوات لتقول له أنها صعبة الملاذ ولا يمكن نيلها بسهولة,لقد أحس بذلك منذ أن تعامل معها حين قالت له:
-أستطيع أن أراك لدي مشوار خارج الكلية بعدالمحاضرة
-طيب متى ستنتهين؟
-لاأدري بالضبط,المهم سأتصل بك بعد أن أنتهي
-حسناً
-واداعاً
-مع السلامة
لقد أخذت الفتاة جل اهتمامه,كانت تعلمه فن الصبر,أثارت احساسه المتوقف عن الحب منذ زمن,فلم ييأس وتابع خطواته باتجاه الربيع,كثيراً مايحاول الحب جذب اهتمامنا حين نكون أكثر ما نغدو بعيدين عنه,ظل يدق قلبه حتى ساعةاللقاء المرتقب,لأجلها عزف عن مشاغله الكبيرة والصغيرة وارتباطاته الكثيرة ,صديقه أيهم يدعوه الى أمسيته الموسيقية فيعتذر إنه يفضل موسيقا صوتها على الموبايل حين تعتذر منه على مجيئها إليه,أخذته الحيرة,الكل بدا يشعر بأنه عاشق حتى قطط الشوارع وفئرانها الفضولية,حين أخذه سيل النعاس ,يغفو على وسادته وهو يفكر بها,يحدث نفسه بهدوء يناجي أعماقه المتعبة باحثاً عن شظايا أنفاسه داخل تنهداته ,يفكر الخريف بأن يقضي نصف إجازته في عينيه ,ويفكر بقضاء شهر العسل مع زوجته الصيف على ضفاف ابتسامته الخريفية,يكثر الطلب عليه حيث غدا عاشقاً ضخماً من سلالة تجيد ابتكار الصراخ وتحترف الخسارة والمغامرة,كان أسير الصمت إلى آخر لحظة يحارب الوهم ويمقت الثرثرة,يمارس طقسه في بيته حين ينصب خيمة عزلته ويستظل بفيئها, تراوده فكرة الانعتاق من سجن الفراغ,يحتاج لأحلام جديدة تزيل سحب حيرته,تخنقه أحلامه المؤلمة,حدثته صديقته عن ألمها قائلة:
(منذ أن عثرت عليك وجدتك حائراً بكل أعبائك بحثت عن مأساتك وعن مايصبك بالصدع والانكسار,خشيت بأن أحدثك عن الموت حدقت في عزلتك,تركتك لشرودك فأثقلك المطر,أرغمك على المسير وحيداً,أما أنا فوحيدة مثلك قلبي ينتشي باليتم وجناح شوقي مكتس بالألم ,أعماقي تاقت لنشيدك,قدري أن أكتب عن ذات لاتخاف الوداع والموت كلاهما حدثان رخيصان كلاهما يرغمانني على النسيان, وجع قديم يحاصرنا كلانا,أنت المقيد في أتون ماضيك وأنا التائهة العنيدة التي تشتهي الموت على صدر من تحب, عندما سافرت إلى المجهول بدأت أفتش عن حلم مايزال يطرق باب وجعي,بات وجه ذاك المبتعد يكسر زجاج ذاكرتي ,التقي به في في دمي وفي دمعتي التي تسقط شوقاً كلما رغبت في تطويقه بذراعي,آه كم أنا متلهفة بشدة لأن أسمع صوته الذي أخذ يرسمن على شغاف قلبي أغنية ثورية,قبل ليلة العذاب بيومين أي قبل أن يودعني كنا نكتب نصوص الميثاق على الكف ونختمها ببصمة الشفاه كنت أذكره بذلك كي لا يزداد قلقه علي كنت أذكره بمعنى الجنون ولوعته اثر لحظة كل عذاب,آه ما أجمل هدوء الليل ففيه ينكسر الشك وتبقى حقيقة واحدة لا تهدأ في ردهة الأعماق وهي الحب,أعتذر له حين يكرر شوقه لرؤيتي ,كان يعيش بي وينحني بأعماقي لم أستطع للحظة أن أنتزعه من داخلي ,ظل يفتش عني أنا المريضة بالسكر ,الحائرة بأحلامي الموؤدة,خسرتها ,كنت أحصي ألمي من خلاله فلا تخشَ صديقي من ذاتك حين تشكو همك مع فتاتك الممتنعة عن التواصل معك ,كن حماسياً كما أنت,كنت ُ دائما معتادة على الكتابة له بلغة لم تدنسها يد الانسان بعد فهل تجد تلك اللغة بين طيات مشاعرك؟)
- ما ماهية تلك اللغة؟
- لعلها لغة العيون ,الشفاه ولغة الجسد في الليل!
ابتسم صديقها وظل مرحاً,راح يفتش عن إذنها للسفر في أروقة صمتها أكثر فأخذ يصغي بتودد فقال:
- كم أنت رائعة
- أشكرك على لطفك
- أشعر أن لديك الكثير لتقوليه
- لا أدري لا أستطيع البوح أكثر حتى روايتي لم أستطع إكمالها ,فأنا منهكة كل ما أدريه أنك أصبحت الصديق الجدير بأن أبوح له عن نزيف أحلامي وانكساراتي ,أنت ملاذي الأول وربما الأخير وداعاً
- سررت بلقاءك
- وأنا أيضاً ,انتبه لنفسك ولفتاتك
- طبعاً
- سلام
كان المنظر في الخارج بهياً مقمراً حين خرجا معاً من الكافيتيريا لينفصلا كلاً في مساره ,تجد في حبيبها الغائب صورة لوطن لامفقود ,خارطة لطالما بحثت عنها فما عادت خارطة العالم والجغرافيا الهزيلة تعنيها, حبيبها كان كطائر السنونو,ظل مسافراً في زحمة أفكارها ,مهما أبعدتها الأيام فلا بدمن أن يجمعهما القدر مجدداً تدورفي متاهة من تساؤلات صديقها الذي يطمح أن يظل بقربها ساهراً يشكو ذكرياته لها ليجعل سكون رالليل فصلا عاصفاً كل أطياف البشر ,كلامهم نبرات صوتهم سكونهم يوتر هذين الصديقين فيرجوان مطر الرحمة سبيلاً للصفح والمغفرةفيعقدان أحياناً حلقات السهر ويشتاقان معاً للثرثرة,الأمور تسير بعفوية بينهما والمرح يسودهماطويلاً ظل لوحده هذه المرة مهووساً بفكرة اتصال غريب, رسالةsms علقت في صدى جهازه,أوه!! إنها فتاته التي أحبها منذ زمن تقول له فيها(حبيبي كم أتمنى بأن أنام على صدرك لعلني آخذ إجازة أبدية من القدر)
المارة يعجون في أرصفة النفس ويعيشون في فوضاهم مع الذاكرة,يغسلون عار صخبهم في أمنياتنا,الحوار مضطرب ثمة أغنية تبكي من جهاز راديو يرسل تشويشه بخفة لاعب سيرك ,العديد من البشر يرتبون فوضاهم وينغمسون في صخب الكؤوس ,راح يفتش عن دفء معتاد ,لكن طيف فتاته مازال يرسل أصوات صراخ لاأحد!من أين يأتي الصوت ,يشتهي الصمت أبتسامته الغامضة تلك ,يناجي بطلاقة أعماقه محدثاً نفسه:
((في ضفاف الصمت أقف متأملاً ذاتي,أستعيد آخر ما بنيته وآخر ما هدمته أعشق أن أحزن على طريقتي حريتي أساس فرحي أرفض أن أكون سعيداً على طريقة الآخرين ,لأن في هذا شقائي ,أحزن أفتش عن معنى لوجودي عن فتاة هجرتني ,لا أراها أفشل أيأس لكني مجبر طبعاً الوجود حائر مثلي أليس كذلك؟ الحب,الحياة الموت ,كل هذا من أجلنا!
أحب أن أظل غائباً عنها تلك التي تبحث عني وأبحث عنها وأستمتع بمزيد من الآهات حين تتنفسني ,هكذا دون أن يغيب وعي أحدنا أنا وهي!!!
كلانا حبتا غبار كلانا نهار كلانا انتحار, أحزن دون أن يجبرني رأحد ما عن التوقف عن الحزن فالفرح مثل كل طفل مراهق ينام دائماً يستفزنا الفرح بعدم مجيئه إلا متأخراً أشعر بأني غبي مثل قلبي وساذج مثل عقلي أظل أمشي أمضي أمشي لاأتوقف فقط لأني لم أتناول الفرح منذ زمن طويل ولم أرى بعد تلك الفتاة التي تستحق حياتي وموتي سأموت دون مقابل لن أجد ما أبحث عنه شعرت في الفترة الأخيرة أن الصمت أصبح ضد كلامي فوجئت بوحدتي وعزلتي وشعرت أنني الأكثر غربة وغرابة عن العالم))
يفتح قلبه للنافذة وهواء البرندا المطل من أعلى البناية,سكب أعماقه لحظة شرود وفتور نظر بخفة نحو الأعلى حاول اكتشاف داخله الضائع عبر بتفكيره زحمة القلق حيث استعاد الجنون وعيه من هبوب غضبه جلس مستديراً باتجاه الطاولة حدق بعناية ودقة لما يحيطه ثمة شرفة مطلة نحو غرفة وحيدة ثمة صوت رفع سمعه باتجاهه أيقظته همسة امرأة اشتهى ذاته بها مشى بامتداد ظلها مامن أحد ,لقد توهم لا أكثر تبعثرت أفكاره كتناثر حبات مسبحة قديمة بقاع مسطبة لحظات براقة سرعان ما اختفت هكذا بدأ يودع إطلالة النور فجأة همس قائلاً:
(سأبقى وحيداً مهما أدرك الآخرون ماهيتي,هذا إن استطعت تجاوز الادانة أمام من أرى فيهم الملاذ)
كانت كلماته تلك قراراً أكيداً للعزلة ,توجه لفسحة من جلوس على العشب الطري أحس بنوبة شوق ولحظة حب منسية ,أخيراً مدَّ ذراعيه باتجاه السماء وبدأ يرسم على جبين الغيمات صدر حبيبته فغفى لدقائق متوسداً العشب موغلاً في الحلم هكذا قرر معايشة الكون في ظل لحظات هادئة تمنحه النشوة اقتربت لحظة الغروب أكثر من عينيه أشعة حمراء تمتص شفاه الغيوم بشهية لاتطاق, فقام بحنق من موضع استلقاءه واستسلم لدندنات خطواته الممتدة كظله الملاصق لشحوب المنظر ,عبر بصمت مدارات العتمة أخذ طيف امرأة تحبو على أرصفة النور وممراته الليلكية مايزال عابراً هادئاً في وجه اللحظة الأخيرة مدركاً بكآبة حساسية الأنتظار ولوعة النهاية فما يزال الغروب يوصيه بقلبه والانحناء للحب حتى تداعى هيكله وتناثر كالعمر في دروب الويل والشقاء..؟!!