رفعَ عينيهِ يرقبُ قرصَ الشمسِ في احتضارِ المغيبِ , يملأُ عينيهِ من المشهدِ الأخيرِ لحياته في هذا الوادي المقفر من كل ما هو حي عدا بعض رموز الطبيعة القاحلة و أشجار العرعر الشاحبة تتناثر في أرجائه الفسيحة التي تكتنفها الجبال من جهات ثلاث على شكل خليجٍ طويل تبقى جهته الشمالية محط أنظار سكانه ترقبُ الداخل إلى الوادي و الخارج منه أو "جَدْرْ" كما يسميه سكانه و من يقطنون حوله كناية عن الجدار الهائل الذي يسدُّ مسار السيل العابر في الوادي.
مكث في صمته طويلاً يراقبُ ابنته و أبناءَها الثلاثة و هم منهمكون في جمع حاجياته و ملابسه من داخل خيمته المُهترئة , لحظ في عيني ابنته نظرات السعادة مختلطة بالدهشة و كأنها في حلم , لقد فاجأها قراره بترك الوادي و العودة معها إلى المدينة . لم تصدق سمعها بادئ الأمر وهي التي فقدت كل أمل في إقناعه في الانتقال معها إلى المدينة منذ سنوات عديدة مضت وبعد رحيل والدتها ومكوثه وحيدا مع قطيع أغنامه في الوادي.
ما زال يذكر كيف قدم إلى هنا منذ أكثر من ستين عاماً , كان الوادي وقتها ممتلئـًا بالحياة قد نصب سكانهُ خيامهم في أماكنَ متفرقةٍ منه , الشجر الأخضر يملأ نواحيه , وجبالهُ مكسوةٌ باللون الأخضر و ينابيع الماء تتفجر من أحشائها تنتقل عبر القنوات التي شقها السكان لتصل إلى حقولِ القمح الصغيرة المتراصة في أسفل الوادي بجانبِ رياض النخيل الباسقة.
لبث برهة يحاول أن يتذكر مكان الديوان الرئيسي الذي كانت تعقد فيه اللقاءات اليومية بعد كلِ صلاةِ مغرب و أثناء المناسبات و الأعياد , مشى إلى مكانه الخاوي يتوسط منازلهم ووقف محاولاً إسترجاع تفاصيل الديوان , كان كبيرا جدا صيوانين متعاكسين أحدهما خاص بالرجال و الآخر خاص بالنساء تفصلهما باحة واسعة كانت مرتعاً لأطفالِ الوادي وقت المناسبات.
كانوا يبدؤون اليوم قبل شروق الشمس بإجتماعهم لصلاة الفجر في الديوان ثم يتفرقون إلى أعمالهم على أنغام زقزقةِ الطيور و طنينِ أسراب النحل التي تنطلق من خلاياها المنصوبةِ في رؤس الجبال , يعمل الرجال في الحقول و رعاية خلايا النحل و ترعى النساء الأغنام و كان الأطفال يمرحون بين هنا و هناك و عند الغروب يعود الجميع إلى بطن الوادي يبغون الراحة بعد عناء يوم حافل يلجون بعده في سكونِ الليل العميق.