بائعُ الأحلامْ
اِشْتَعَلَتْ القَاعَةُ بِتَصْفيقٍ حَاد فِيمَا و قَفَ هو رافعاً ذرَاعَهُ اليُمْنَى يُحَيِّ بها الجُمْهُور الذي اِكْتَظْت به مُدَرَّجَاتُ القَاعةِ و أرْوِقَتِها , اِرْتَسَمَتْ على وجْهه ابتسامة ثقة اعْطتْ مع مَلَامِحِهِ البَارِزَة و خُطُوط الشَّيْب على جَانِبيْ رأسه إيحاءً بالرَّصانة و القوة , مَضى مع مُضِيفِيهِ نحو بابٍ جانبي صَغِير مُتَفَادِياً مُواجهةَ الحُضُور الَّلذين هَرَعُوا إليه حاملين نُسخاً من رواياته املاً في الحصول على تَوْقِيعه عَليها , شق طريقه بين رجال الامن لِيَدْلِف عَبْرَ البابِ الصغيرِ إلى سَاحةٍ واسِعة تَتَوَسَّطُها مَوائد عَامِرة بأَصْناف الطَّعام و الشَّراب فيما تَنَاثر حَوْلَها رِجَالٌ و نِسَاء مَا لَبِثُوا أنْ تَحَلقوا حَوْلَه , صَافَحَهُم بحرارة , رَغِبَ البعضُ في الحصولِ على توقيعه على نسخٍ من رواياتهِ بَيْنَمَا مَكَثَ البَعْضُ الآخر يتجاذبُ معهُ أطْرَاف الحديث بَادَرَهُ رَجلٌ يَقفُ بِجِوارِه:
-ندوة رائعة جدا يا دكتور وليد , تهانينا.
-شكري الجزيل لك معالي المدير و لمنسوبي الجامعة على حُسْن الاستضافة و التنظيم.
-نتشرف دوماً بالاحتفاء بأمثالك يا دكتور , يبدوا أننا في حاجة إلى قاعةٍ أكبر في المرة القادمة.
-المرة القادمة!
-نعمْ ؛ إلا إذا كنت لا ترغب في إنهاءِ الجزءِ الأخيرِ من ثُلَاثِّيَتِك.
-آه ؛ لا بالطَّبع , إنِّي أبذلُ قُصَارى جُهْدِي لإنْهَائِه و لكنْ يَبْدو أَني بِحَاجَة إلى مَزيدٍ من الوقت.
ابتسمتْ امرأة تَقفُ أمَامَهُ قائلةً:
-لا أعتقد أنَّ جُمْهُورَكَ يُطِيقُ الانْتِظَارَ يا دُكْتور " وليد ", جُلُ الأسئلةِ كانتْ عنْ هذا الجُزء الأخير.
-لا بأس سا......
-ماذا سَتُطْلِقُ على العُنوان؟
-لم أقرر ذلك بعد ,عادةً أفكِّرُ في العُنوَان بعْدَ الانتهاء منْ الرواية التي أكتُبها.
قاطَعَتْهُمَا شَابَّة في مُقتبلِ الُعُمْر :
-لقد جَذَبَتني بِشِدَّة عَناوينُ الأجْزَاء السَّابقة "أَحْلَامُ العَتَمَة " و " أَنِينُ الصَّمْت " ؛ و أنا على يقين أن العنوان الأخِير سَيرُوقني أكْثر.
رَدَّ عَليْها بِبَسْمَته الوَاثِقة:
-آمل ذلك
اسْتَأْنَفَ الحَدِيثَ كَهْلٌ وقُور يَضَعُ عَلَى رَأْسِهِ كُوفِيَّةً مِنَ الصُّوف ويُمْسِك بيَمِينِهِ كُوبٌ مِنَ الشَّاي:
-أَعترفُ لك يا دكتور بأني لا أشْعُرُ بِجاذبية تِجاهَ أغلبِ الرواياتِ الصَّادِرَة مؤخراً و لكنَّ رِوَاياتِك أَسَرَتْني مُنذُ اللحظةِ الأُولى ,كَأنها وحيٌ قَديم يَنْتَقِل عَبْرَ عَيْنَيْك إلى كُلِ إِحْسَاسٍ فِيك ,أَشْعُر كأنَّ البَطَلَ فيها يُنَاشِدُنِي بِأَنْ أَغُوصَ في عَالمِهِ لِأَتَذَوَّقَ طَعْمَ الحَيَاةِ فِيه , المُعَانَاةُ فِيها عَمِيقَةً و وَاقِعِية جداً لِدَرَجةِ الحَقِيقَة ,التَّضْحِيَةُ فِيها صَادِقَة , يلازمُها خَوْفٌ أَزَلِي , فِيها أَحْلامٌ خَافِتَة تَتَحَدَّى الصَمْتْ و العَتَمَة ,تَتَشَبَّثُ بِصَهْوَةِ الأَمَلْ لِتَجْتَازَ إلى النُّور .... إنها رواياتٌ فَرِيدَة حقاً تَسْتَحِقُ مَا أُثِيرَ حوْلها من ذُهُولٍ و إِعْجَابْ......أُهَنِّئُكَ يا دُكتُور على خَيَالِك الذي تَجَاوزَ حُدُودَ الإبْداع و إنْ كُنْتُ أَظُنْ في نَفْسي أنَّ خيالاً مِثْلَ هَذا لا يُولَدُ إلا مِنْ رَحِمِ الآلام .
-بلْ أنا الذي أهنئُ نَفْسِي بِشَهَادَةِ رِوَائيٍ كبيرٍ مِثْلِكْ يا أُسْتَاذ " نَصِيفْ "
-أنْتَظِرُ الجزء الأخِير بِشوْقْ.
-أشْكُرُك
خَتَمَ عِبارتهُ الأخيرة بابتسامةٍ مُصْطنَعة سُرْعَانَ ما تَلاشتْ عندما لامَسَتْ سَمْعَهُ نَغَمَةً بَارِزة وحِيدة من هَاتِفهِ المَحْمُول، تَفَقَّدَ هَاتِفَهُ، أَشرقتْ على مُحَيَّاه اِبتسامةُ سَعَادَة , استأذن مِمَنْ حَوْلَهُ من الحُضُور في المُغَادَرَة لِظَرْفٍ طَارِئ , أسْرَعَ نَحْوَ سَيَّارتهِ , انطلقَ بها يَشُقُّ طَرِيقَهُ إلى خارجِ أطرافِ المدينة.
كانَ الوقتُ َ مُنتصفِ الليل عندمَا توَقَّفَ بِسيَّارتِه في خلاءٍ مُظْلِمْ أمَامَ مِئاتِ الخيامَّ المُتَراصةِ بجانبِ بَعْضِها البعْض على هَيْئةِ صُفُوفٍ أُفقية يُحِيطُ بها سُورٌ مَعْدِنيٌ شَائك , سَطَعَتْ أمَام أضْواءِ مَصَابيحِ السَّيارة لوحةٌ مَعْدِنِية زَرْقاءُ اللونِ كُتب عَليْها بخطٍ أبيضْ "مُخَيَّمُ اللاجئين رقم 8 " , نزلَ من سيَّارتهِ و اتكأ بِجِذعِهِ على مُقدمتها , أيقَظتْ الجَلَبة التي أحدَثَتها السَّيارَة بعض سُكان الخِيام القريبة , خَرَج بَعضُهم ينظر إليهِ بفُضُول , لم يَكترثْ لَهُمْ حتى رأى شبَحُ أحَدِهم في الظَّلامِ مُقْبِلاً عَليهِ , اِعتدلَ واقفاً يَتَبَيَّنُ القادمَ , عادت اِبتسامةُ الثقة على وجْهِه من جَدِيد عِندما تَعرَّفَ على القاَدِم , شابٌ هزيلُ الجِسمْ رثَّ الثِّياب يحملُ بيَدِهِ اليُسرى والوحيدة كيس نايلون أسود اللون فيما أخذ كُمُ قَمِيصِهِ الأَيْمَنْ يُرَفْرِفُ في الهواءِ , تَوَقَّفَ الشَّابْ على بُعْدِ أمْتارٍ قَلِيلةٍ مِنْهُ , أَمْعَنَ النَظَرَ فيه قبْلَ أنْ يَسْتأنِفَ مَسِيرَهُ إِلَيْه ,قطعَ الدكتور وليد أجواءَ الصمتْ :
-لقد تأخَّرْتَ عليَّ كثيراً هذه المرَّة يا مازن.
رَمقهُ الشاب بِنظرةِ إِمْتِعَاض قبل أن يَمُدَّ يَدَهُ اليُسرى ليُناولهُ الكِيس , فتحَ الدكتور وليد الكيس ليُخْرِجَ منه رُزْمَةً أوراقٍ صَفْرَاء رُبِطتْ بخُيطٍ من الكُتَّانِ , عاينها قليلاً ثمَّ رجعَ إلى داخلِ السيارة, أخرجّ مظروفاً بُنيُ اللونِ و ناولهُ الشَّاب الذي اِلْتَقَفَهُ بِيُسْراهْ ثمَ قَفِلَ راجَعاً إلى المُخَيمِ عَبرَ الظلام, أضاءَ الدكتور وليد مصابيحَ السيارةِ الدَّاخِلية و حلَّ خيطَ الكتان عن الأوراقْ و أخذ يتأملُ الورقة الأولى و قد بدت على مُحياهُ ابتسامةُ النَّصْر :
بائِعُ الأحلامْ – رواية
مازن محمد أحمد
تمت بحمد الله