فى شتاء 2005م عرفت باريس وضاحيتها وكبريات المدن الفرنسية ثورة شبابية عارمة نتيجة لسن الحكومة اليمينية الفرنسية قانوناً جديداً فى الشغل يعطى الحق لأرباب العمل التخلى الفورى عن خدمات أى شاب يدخل مجال الشغل للمرة الأولى بصفة تدريبية مؤقتة ، وكان السخط عارماً والغضب مدمراً محدثاً فوضى كبيرة ، وحرقت محال تجارية وسيارات عامة وخاصة وحدثت مواجهات دموية بين الشرطة والشباب .
ونقلت وسائل الاعلام العالمية صوراً مرعبة لتلك الأحداث وثار جدل واسع امتد لخارج فرنسا حولها ، وأراحت السلطات الفرنسية نفسها وحاولت التخفف من المسئولية السياسية والأخلاقية والجنائية عن الأحداث بالترويج للأصول الثقافية والدينية لهؤلاء الشباب المغاربيين الحاملين للجنسية الفرنسية ، فى اشارة الى مسلمى الضاحية الباريسية وبقية الضواحى من أصول جزائرية ومغربية .
بالربط بين عنف الشباب وتدينهم وجذورهم الاسلامية هدأت الانتقادات العنيفة والحملات الاعلامية المضادة الموجهة للسلطات ، من باب الفوبيا المنتشرة وهواجس الفزع ضد انتشار ظاهرة الفرنسيين المغاربيين وانتشار الاسلام من خلالهم فى معقل الحضارة والثقافة الأوربية ، وتم استدعاء المخزون الحضارى والثقافى الفرنسى والتأكيد على علمانية الجمهورية الفرنسية الخامسة ، ودخلت الأحزاب السياسية والنقابات سوق المزايدات وتحصيل المكاسب بالحصول على قطعة من تورتة تأليب الرأى العام ضد الشباب الفرنسى المسلم المغاربى الأصل ، الذى تجرأ وقرر ذات شعور بالغبن الغضب والرفض والتعبير والمطالبة بالحقوق المتعلقة بالمواطنة – أو هكذا ظنوا - .
وانطلقت دعوات تخير الشباب بين حب فرنسا أو الرحيل عنها !
وكان نيكولا ساركوزى وزيراً للداخلية ساعتئذ وراح يكرر جملته المستفزة " من لا يحب فرنسا عليه أن يرحل عنها " ، ولمحت وصرحت دوائر دينية وثقافية فرنسية الى أن تلك الهوجة الغاضبة جاءت فى اطار ثورة يقودها العرب ضد الفرنسيين .
فيمَ اتضح لاحقاً بناءاً على دراسات أكاديمية موثقة ومنصفة أن الضواحى التى تعرف حضوراً مكثفاً للشباب الفرنسى ذوى الأصول المغاربية هى التى كانت أقل عنفاً من الضواحى التى يعيش فيها فرنسيون او أفارقة أو آسيويون ، وأن الشباب المغاربى هو الأقل شغباً والأكثر هدوءاً والأبعد عن استخدام العنف وارتكاباً للجرائم ، وأن من قاد مظاهرات الضواحى الدامية ليسوا بالضرورة مسلمين أو مغاربيين .
الغضب والرفض فى مصر صارا يصنفان دائماً على أنهما اخوانيان أو اسلاميان تحت مظلة شحنات الصراع السياسى الحالية ، فكأن كل شاب يطالب ببضعة حقوق مشروعة أو يسعى بطريقة أو بأخرى للتعبير عن رأيه أو رفضه لسلوك السلطة والحكومة معه كما حدث فى قضية الباعة الجائلين هو اخوانى بطبيعة الحال ، ويتم تصنيفه سريعاً من خلال الاعلام أنه يخدم الأجندة الاخوانية .
هكذا تريح السلطة نفسها وتضع المحتجين والغاضبين فى خانة اليك ، فهم ليسوا مواطنين عاديين تابعين لجمهورية مصر العربية الحرة المستقلة ، انما مجموعة من المشاغبين الخارجين عن القانون التابعين لجمهورية الاخوان المنفصلة المارقة .
سكين صارت تشرع سريعاً سياسياً واعلامياً ضد كل من يقول لا أو كل من يبدى رأياً حراً أو رفضاً لسياسة وسلوك مشين أو يحاول الكشف عن تقصير أو فساد ، وهذا ما يقلقنا من حديث رئيس الجمهورية الدائم عن الاعلام الموجه والمصطف وراء الدولة لغاية واحدة ، فهل معنى ذلك العودة الى اعلام الرأى الواحد وكل من يبدى رأياً مخالفاً فهو مارق يستحق الطرد والتهجير لأنه لا يحب مصر ، ومن لا يحبها فليلحق بالاخوان بتركيا أو قطر .
بل حتى فى عهد جمال عبد الناصر لم يكن الأمر بهذه الصورة التى يروج لها ، فقد كان هناك معارضون وأصحاب رأى مخالف ، بل كرم عبد الناصر الكثيرين منهم .
عزيزى ابراهيم محلب ، ليس كل الغضب اخوانياً ، فالغضب لا يعرف الأيديولوجيا ولا الأفكار .. فالغضب غالباً محله البطن .