سوفَ يحصلُ هذا بعدَ موتِك عزيزي القارئ، إذا كنتَ في منتصفِ العمر. أما إذا كنتَ في مقتبله، فربما كنتَ ما زلت على قيد الحياة.
أتمنَّى الصحةَ والعافيةَ للجميع ، أما الحياة,, فهي في يد الله.
في يومٍ صيفيّ باهر من أيامِ سنة 2052، وبينما كنتُ أحلِّق في طائرتي الحريريَّةِ البيضاء,, فوقَ الجزيرةِ العربيَّة، مررْتُ بعد الأصيلِ فوق الصحراء، كانت الشَّمسُ الجانحةُ نحو الغروب ,ترسلُ نوراً ذهبياً ساحراً, يتّحدُ فوراً مع الرمال الساخنةِ البرّاقة ,ومع الأفقِ الذَّهبي اللامع، فتؤلِّف كلُّها هالةً رائعةً متّقدةً من ذوب الذهب الخلاب. وفي ما أنا أحومُ في ذلك الفضاءِ المدْهش، أسبِّح الخالق, وأدقِّقُ النَّظرَ في كلِّ شيء، سمعتُ فجأةً صوتاً رهيباً يشبهُ صوتَ عاصفةٍ هوجاءٍ معربده، ممزوجاً بفحيحِ أفعى ثقيلة.
رأيتُ وجهَ الرِّمالِ يتمزّقُ بشدّةٍ وكأنَّ زلزالاً ضخماً قد ضربَ تلكَ المنطقةِ الهادئة بأمرٍ من الطبيعة.
ثمَّ ثارت الرِّمال ثورةً مجنونة في دومات عنيفة، حتى امتلأ الهواءُ الذي كان ساكناً برّاقاً قبل قليل، بغبارٍ كثيف، استطاع أن يحجبَ نور الشمس ,فغرقتْ الصحراءُ كلّها في سحابةٍ حمراءٍ معتمه، يملأها ضجيجٌ وزعيق، وهديرٌ وفحيح، وصوتُ انفجاراتٍ وأشياءٌ ضخمةٍ تتحطمُ وتنزلقُ إلى الهاوية، ثم رأيتُ قطعاناً من الوحوشِ البريَّةِ تسرعُ بأقصى ما لديها من قوَّة إلى مكانِ التمزّق، وقطعانأً أخرى من الجِمالِ، وأخرى من الخِراف والنِّعاج، وأسراباً من النُّسور والصقور والعقبان.
وكان كلُّ حيّ هناك يهرولُ مسرعاً مرعوباً، وكأن حادثاً جللاً قد وقع، أو جبلَ مغناطيسٍ جبَّار كان يسحبُ هذه المخلوقات وهي فاقدةَ الوعي والإرادة.
تمسّكتُ بطائرتي الحريريّة جيداً ,إذ خفتُ عليها أن تسرعَ هي الأخرى مع هذا التيّارِ المتسارع من المخلوقات، ولشدّةِ دهشتي وجدتُها ما زالت بخير، وما زالت تحتفظُ بلونها الأبيض الناصع, وما زالت تحت تصرّفي أنا ,وتسير حسب إرادتي، مع أنَّني كنت وإيَّاها في قلب هذا الإنقلاب الصاعق، وهذه الريح الساخنةِ المروّعة.
ظننتُ أنَّني في حلمٍ مرعب، أو أنَّني في صالةٍ من صالات السينما الأميركيَّةِ الحديثة، وأنَّ كلَّ ما أراهُ أمام ناظرَيّ هو مجرَّدُ فلمٍ عظيم من افلام الخيال العلميّ. لكنَّها كانت حقيقةٌ واقعة ,فلا هي حلمٌ مرعب, ولا هي فلمٌ أميركيٌّ عظيم.
بدأت أنادي بأعلى ما لديّ من قوةِ الصوت.
~~~ماذا يحدثُ هنـا؟؟ أيَّتها الزَّرافات! أيُّها النمور! يــــا خلــق الله!,,ماذا يحدث هنا؟؟
لكنَّ ذلك الضجيج المهلك، كان يبتلعُ صوتي ,فيضيعُ ويتلاشى على الفور، لدرجة أنَّه لا يصل إلى مسمعي، ولم أرى من يهتمّ به أو يلتفتُ إليّ.
قرَّرتُ أن اسرعَ على متن طائرتي كما يسرع كلُّ شيء ,ربما استطعت أن احصلَ على جواب.
صدمني المنظر,,,
إقشعرّ بدني كلُّه,,,,!
أصابني ما يشبه الدوار, وربَّما الإغماء. أحسست أن حدقاتي قد اصبحت مجرّد قطعتين من الزجاج تعكسُ الصورة ولكنَّها لا تحسّ بشيء.
كانت أفعى,,,ضخمة جداً ,, طويلة جداً ,,, تخرج من الرِّمال.
كانت تبدو كأنَّها سلسلةَ جبالٍ متّصلةٍ بعضها ببعض. ذاتَ لونٍ أصفرٍ قاتم .
يتخلَّله خطوطٌ حمراء بلون دمِ الأبرياء. وخطوطٌ أخرى سوداء بلون دم المظلومين التعساء.
كانت تزيّنُ رأسَها الرهيب بتاجٍ عظيم ,رصّعت فيه كل كنوز العالم، من ماس روسيا الفاخر، إلى ذهب افريقيا وكندا البراق، إلى ياقوت أمريكا واستراليا، وكل ما في آسيا من كنوزٍ عظيمة كان يزيّنُ جسدَها المفتول، على شكل قلائدٍ وسلاسل، لذا,,, كانت تحدثُ جلبةً وجلجلةً ضخمة كلَّما تحرّكت ذات اليمين أو الشمال.ورغم كل من كان حولها، لم يلفت نظرَها إلا أنا وطائرتي الحريريَّة البيضاء. فحدّقت بي بعينين مستديرتين بدت كلٍ منهما كأنَّها حفرة رهيبة من جهنّم. عينان كبيرتان جداً تتّقدان ، تلوبُ فيها ملايين من ألسنة النار القاتم. وبسرعة البرق الخاطف مدّت نحوي لساناً طويلاً وضخماً ذا شعبتين وكأنَّها تعتقد أنَّني مجرَّد فراشة صغيرة، أو ذرّة هائمة سقطت عفواً في ذلك الفضاء المميت، لكنني كنت أسرع من لسانها فابتعدت عنه بلمحةِ بصر، فحاولت مرة ثانية وثالثة، ولكنها عجزت عن التقاطي !!!!!
استغربَتْ الأمر!!!!
إنها لم تتعوَّد أن تعجز عن شيء تريده، فأصابها غضبٌ مرعب، إذ هاجت وماجت واطلقت فحيحاً استطاع أن يصمّ آذان الدُّنيا بأسرها، فركعت أمامها كل المخلوقات الموجودة خوفاً، ومدّت الجِمالُ أعناقها تقدِّم لها انفسها غذاءً هنيئاً كي تهدأ، وتحفّزت الأسودُ والنمور والصقور لخدمتها والسهر على راحتها، والقضاء على من يسبب لها الإزعاج، أما أنا فقد بقيت أحلّق فوق كل شيء بطائرتي الحريريَّة البيضاء, وأنا أعلمُ تماماً أنَّه لا أحد يستطيع أن يطالني مهما بلغت قوّته أو جبروته أو سرعته.
أخيراً ,,, ساد صمت,, وهدأ كل شيء.
وارتفع صوتُ تلك الأفعى الوحش. كان صوتٌ يشبه قصف الرَّعد، بل أشدّ ضراوه. أحسستُ أن السماءَ منه تكاد تتمزّق، والأرضَ تتفجّر، وأنَّ الرُّعبَ منه قد دبّ في كل القلوب، فبدأت ترتجفُ خوفاً وتحني هاماتها.
~~~قالت : " ما أعظمني,,, ما أشدّ هيبتي وقوّتي . !
أنا الملكةُ الكبرى والوحيدة على كوكب الأرض، نفوذي يمتد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. أسيا بمن فيها من بشر وشجر وحيوان لي أنا، الأمريكتان لي ,,, أوروبا الجميلة بما فيها من مياه وخضرة لي ,, أفريقيا وكنوزها لي وحدي، أستراليا بمن فيها لي ,
أنـا سيّـدةُ العالـم
أنـا سيّـدةُ البحار والجبال والوديان والأنهار !
أنـا قوَّةُ المال,,,! أنـا مالُ القوَّة!!
يجب على الجميع أن يدين لي، يجب على اليهود والمسيحيين والمسلمين أن يتركو ربّهم الله ويعبدوني، ويجب على الهنود أن يتركو بوذا ويعبدوني
ويجب على كل من له شيء مقدّس أن يتركه وشأنه ويعبدني أنا.
لن أرحم أحد.....
لن أشفق على مخلوق....
الكل سيكون عيداناً يابسة وقوداً لناري
لن أعطف على أحد
سأدوس الجميع بأقدامي
إنني اعشق الدم والدموع، ولا أكبر إلا بها
لذا ..... كلّ ما في عروقكم من دمٍ هي غذائي
وكل ما في عيونكم من دموعٍ هي شرابي
وكل ما في قلوبكم من حزنٍ هي فاكهتي
الموتُ لكم جميعاً ,,والمجدُ لي
الفناءُ لكم جميعاً,, والخلودُ لي
سأدوس الرِّقاب
وافقأ العيون
وأُصادر الحريّات
سأجعلُ البشر مجرّد هياكلٍ عظميَّة هائمةً على وجهها في وديان الموت
هذا قدرُكم,, فالويل لكم ,,, الويل لكم,,!
إنَّ جبروتي أعمى، وقوّتي لا إحساس لها
إنَّني لا انتمي للروح
ولا علاقة لي بالإنسانية
إنني لا أعبد إلا نفسي
ولا أحب إلا ذاتي
وإني أُعلِمُ الجميع,, أنَّني لا افهمُ لغةَ الضَّمير، وليس لديّ أيّ مشاعرٍ أو قلب، إنّني لا أفهم لغةَ الفنِّ او الجمال، ولا لغةَ التَّاريخ أو الجغرافيا.
كلماتي جلاميدُ صخر,,
لهاثي سمٌ قاتل ,,
أنفاسي نيرانٌ حارقة,,
وانتم جميعاً أمامي حشرات، بل أقلّ منها شأناً
سأخنقُ صغاركم قهراً
واجعلُ من نسائكم سلعاً في سوق الرقيق
سأدوس الرِّقاب التي تحاول الارتفاع ولو قليلاً
سأجعلُ مرضاكم يموتون على باب المشافي
سأقتلكم جوعاً و برداً وقهراً.
ليس لديّ أذنٌ لأسمعَ صراخكم أو توسلاتكم
ليس عندي بصرٌ لأشاهدَ عذاباتكم وآلامكم
ليس لديّ إحساسٌ لأشعر بكم
ومع ذلك سوف تعبدونني وحدي
أيها التعساء ,,
أيها الجبناء ,,
أيها الحقراء,,,اللَّعنةُ عليكم إلى الأبد.
ثم هاجت تلك الأفعى الوحش وماجت يميناً وشمالاً وتطاولت حتى بلغ قرناها أعالي السماء
حينئذ ,, مدّت رأسَها صوبَ الشمس حتى أصبحت هي والشمس وجهاً لوجه، فقالت لها بصوتٍ أجشٍ يشبه صوتَ طاحونةٍ شيطانية.
" اللعنة عليك أنت الأخرى، ما زلت متمرّده، لقد دان لي القمرُ, والمريخُ, والزُّهرةُ, وأشياءٌ أخرى كثيرة، لقد اشتريت العلماء والخبراء ,وغزوت الفضاء واعماق البحار بمالي، وكلّّي أمل بالكسب الأكثر.
إلا أنتِ,,, إلا أنتِ"
قالت هذا,,, وبصقت بصقةً كبيرةً حانقة بوجه الشَّمس، لكنّ الشمس ظلّت صامتةً متهاديةً بجلالٍ وكبرياء نحو المغيب.
وعندما ملّت الأفعى من النظر بوجهِ الشمس ,هبطت إلى مكانها مرهقةً غاضبة,, ودخانٌ أسودٌ كثيف يخرج من منخريها.
فغادرْت أنا بطائرتي الحريريَّة إلى إحدى الغيوم البعيدة ,وقد كنت مذهولةً ومتعبةً,, فنمتُ طويلاً ,,,.
وعندما استيقظت,, كان صباحُ يومٍ صيفيٍّ باهر من أيام سنة 2152 . فتذكَّرتُ قصّةَ الأفعى.
فركبتُ طائرتي الحريريَّة البيضاء، وانطلقتُ إلى نفس المكان.
فإذا بالحيّةِ الشيطانة مجرّدُ هيكل عظميّ يابس، معفّر بالتراب، والدنيا هناك هي الدنيا كما نعرفها.
سألت احدهـم:
" ماذا حدث لتلك الوحش؟؟؟؟؟؟؟؟"
فقال
نقرها غراب، فأكلهـا النّمــل.
مــاســـة