تعرض الفن على مدار التاريخ للابتزاز والتقييد من سلطتين ، الأولى سلطة الدين ، فاستخدمه الهندوس والاغريق والبابليون والأفارقة والعرب قبل الاسلام فى خدمة عقائدهم ، وفرضوا على الفنان نمطا وحيدا من الابداع بتجسيد آلهتهم المعبودة فى تماثيل منحوتة . ووجهت المسيحية الفن لخدمة العقيدة وتحقيق أغراض الكنيسة ، ليس فى العصور الوسطى فحسب ، بل فى عصر النهضة أيضا ؛ حيث حدد القساوسة والرهبان للفنانين الكبار اطار ابداعهم ، وهذا واضح تماما فى أعمال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشى وغيرهما .وبمجئ الاسلام فى القرن السابع الميلادى تحرر الفن من سلطة الدين ، عندما توجه للفنان بصيغة النهى الاختيارى ( لا تفعل ) ، بعد أن كان مقيدا لقرون برغبات وأوامر واملاءات رجال الدين . واذا أجرينا مقارنة سريعة لوجدنا فارقا هائلا بين سلطة دينية تجعل الفنان خادما لأوامرها ومسخرا لأغراضها حيث لا اختيار له الا أن يفعل ما أُمر به ، وبين دين يمنح الفنان مجالا واسعا للحرية والاختيار ؛ لأن صيغة الأمر ( افعل ) لا تتيح للفنان اختيارا آخر يتعدى رؤية السلطة ، أما أسلوب ( لا تفعل ) الذى اتبعه الاسلام ، فالفنان معه حر وله كامل الاختيار فى القيام بالبدائل الأخرى ، بعد التقيد بما ورد من نهى فى جزئيات بعينها تتعلق باستخدام الفن كمطية لتحقيق أهداف تنحرف به عن رسالته ودوره فى الحياة . كذلك تعرض الفن والفنان للابتزاز والتقييد من سلطة ثانية غير سلطة الدين ، وهى سلطة الدولة ، وأوضح مثال على ذلك هوليوود وكيف استخدمت أمريكا صناعة السينما فى بسط نفوذها وهيمنتها ونشر قيمها فى الخارج للدرجة التى اعتبر معها جورج بوش الأب السينما الأمريكية أحد أهم الأسلحة التى انتصرت بها الولايات المتحدة الأمريكية فى الحرب الباردة ، ولذلك أيضا ذكر الممثل الفرنسى المشهور آلان ديلون شعبه قائلا : " ألم أقل لكم منذ ثلاثين سنة ان أمريكا تغزونا بأفلامها ؟! " . ويبقى المثال الأوضح والأقرب لنا هو السينما المصرية والفن المصرى على وجه العموم ، فى بلد لا أرى فى تسميتها هوليوود الشرق الا فى جانب تقليد السينما الأمريكية فى استخدامها لخدمة أغراض الدولة وتطويع المجتمع واخضاعه ، وسوق الجمهور للرضا والايمان برؤى السلطة وسياساتها . فمن جانب استخدمت السلطة الحاكمة الفن والفنانين فى الترويج لنهجها فى علاقاتها وسياستها الخارجية ، وقد غلبت على الدراما المصرية طوال العقود الماضية روح الانهزامية أمام النموذج الغربى ، وتشبعت ثقافتنا بالرجل الغربى والأمريكى الخارق القادر على فعل المعجزات ، حتى صار هو منتهى طموح كثير من الشباب الذين تهافتوا على النزوح غربا ، ولو كلف ذلك أحدهم حياته فى عرض البحر فى رحلة هجرة غير شرعية ، فقد صارت أوربا والغرب عندهم هى الحلم بعد أن دغدغت به السينما المصرية خيالهم ، فسعوا الى تطبيقه عمليا . والواقع أن ذلك كله لم يكن الا تخديما لسلطة الدولة فى الترويج لخياراتها فى سياستها الخارجية فى ضرورة التحالف مع أمريكا ، وما يستدعيه ذلك فى كثير من الأحيان من تنازلات مذلة . وأيضا استخدمت السلطة الحاكمة الفن والفنان فى الترويج لعلمانية الدولة بنشر قيم الاختلاط ومظاهر الانحلال الأخلاقى واقصاء الرؤى الابداعية الاسلامية ومن يرتدين الحجاب ، وتكثيف الأضواء على العلاقات غير المشروعة خارج اطار الزواج . واستخدمته كذلك فى صراعها القديم مع خصومها السياسيين ، وخاصة المنتمين للتيار الاسلامى ، فقد روجت السينما المصرية للملتزم دينيا بصورة تسبب عزلته عن مجتمعه ، فقد أظهرته نموذجا للتحجر والجمود والتجهم والكآبة والغلظة والقسوة والنفاق .
والأهم من ذلك كله أن سلطة الدولة استخدمت الفن لتبرير فساد السلطة كضمانة لبقائها ، ولم تكن الأعمال الفنية التى تروج للانتهازية والفهلوة والبلطجة وانتصار الشر والبقاء للأقوى ، الا دعوة للجماهير بقبول الأمر الواقع والركون للدعة والاستسلام والخنوع لسلطان الحاكم القوى الشرير .
ومع هذا التقييد والتوجيه للفن من قبل السلطة لم يستطع الفنان المصرى تقديم شيئا مبتكرا جديدا طوال العقود الماضية ، فقد ظل محصورا فى تلك الدائرة الضيقة التى رسمتها له الدولة .
يختصر الناقد طارق الشناوى القضية فى تعليقه على مجمل ما قدمه واحد من رموز تلك السينما الكبار الممثل الكوميدى عادل امام ، فقال الشناوى عن فيلم ( بوبوس ) ساخرا : ( ما فيهوش فيلم أساسا .. كل اللى فيه بوس وبس ) ثم أطلق طارق الشناوى حكمه النهائى قائلا : ( عادل امام أفلامه فيها بوس وعرى بلا منطق ) . هكذا يخرج الفن معدوم القيمة ، هدفه التحايل على الجنس والترويج للاسفاف والهبوط ، ما دامت أصابع السلطة الحاكمة تحركه .
أما الاسلام فقد أعطى الحرية للفنان ليكون قادرا على تطوير المجتمع وتبصير الحاكم بعيوبه وبث الأمل والثقة وعلاج الأمراض المجتمعية واستشراف المستقبل واثراء الحياة العقلية والوجدانية ، والارتقاء بالمشاعر والأحاسيس وتوطيد العلاقات الانسانية ، وليساهم فى بناء النهضة وليحافظ على ترابط الأسرة والمجتمع .