وجدتني أحمل نفسي مبعثر الأفكار باحثا عن سر الحب بين الوأد والحياة ،وقفت مشدوها أمام قبرين يلتصقان وكأنهما متعانقان،دمعت عيناي ونزف قلبي ألما ودما، وأنا أرثي الحب المغتال في غفلة من آلهته التي سكنت كل الأساطير القديمة ،تبعثرت أفكاري وأنا أنسج خيالا حول المحكي والمرئي ،كيف يرفضون أن يتعانق قلبان يخفقان بالحياة.ويسمحان لهما بالعناق في قبرين وقد توقف قلباهما عن النبض والخفقان . وصار الموت هو النص .هل هو الضمير الذي استفاق متأخرا ؟ أم أنها محاولة لتعويضهما عن ما فات ولو تحت التراب.تحولت دموعي إلى بكاء مسموع ثم شهقات مسترسلة.انحنيت فيما يشبه الإنهيار إجلالا وتعظيما لهذا الحب الناذر الموؤود.
أغمضت عيني تقطعت زفراتي والشهقات، رأيتهما معا يرسمان غيمة ويستحمان بالمطرابتسمت للضحكات والهمسات ومحاولاتهما التغريد والغناء ببعض أغاني الحب المعاصرة،عند المساء جلسا متكئين على جدع شجرة زيتون كبيرة .كان ممسكا بقوة بيدها،كانا يحلمان ببيت جميل وسيارة وأطفال ،سمعت وعوده لها بالسعادة والحماية والحرية ،سمعت صوتها العذب الذي يزرع في شفتيه ابتسامة أمل عريضة وهي تعده بالحياء والحب والإخلاص والوفاء وأشياء أخرى أجمل ،فجأة تختفي ابتسامته، ويسود الصمت المخيف يتلوه صفير وأصوات نكرة ،تمتليء الشجرة بالخفافيش.،كل أصواتها في رأسيهما وعيد في وعيد ،وعيد بالهجران وقتل الحب بالوشاية وسواد اللوم ،كانت أصوات الخفافيش تلومه ،تلومها، تصرخ ،تزمجر ،وتعوي معلنة عن حضور الظلام.أسدل الليل غطاءه ،ارتجفت اصابعهما الغضة الرشيقة وهما يفلتانها من بعضها ،اسودت دموعها وهي تختلط بالكحل وتسيل كنهر أسود على مقلتيها مع أصوات الخفافيش في رأسها الصغير .تمنى في تلك اللحطة أن يسرق منها ذكرى قبل الوداع،أن يضمها اليه ويرسم على شفتيها لحنا ملائكيا ،لكنه ضرب لنفسه مع تلك الحلاوة وعدا آخر بعد اللقاء الذي سيباركه الله وملائكته..اشترطت عليه اللباس والخاتم الذهبي والمهر الغالي .... واشترط عليها أشياء أخرى،إنها ليست شروطهما بطبيعة الحال ،إنها شروط الخفافيش التي تعوي في رأسيهما .أفلتت الأصبع الأخير من يده ،ودعته بصوت خافت،مسحت أنهار الدمع الأسود من على مقلتيها وغابت وسط الظلام والسحاب.حين رحلت تحولت أصوات الخفافيش في رأسه إلى صراخ لا يطاق،أخرج من جيبه حبات سم،ابتلعها ثم ابتسم ثم نام.وهو يحلم باللقاء.
في الصباح تناهى إلى مسامعا الخبر ،صرخت بأعلى صوت ،مزقت كل الدفاتر،بعثرت كل الأوراق،أحرقت كل الصور ،وقررت أن تحقق وعدها له باللقاء.
فتحت عيني على التلة التي تحضنهما ،قرأت آيات بينات ووضعت وردة حمراء على قبريهما وانسحبت في صمت مهيب .
أيها الحزن الجليد،القريب ،السرمدي،أيا قاتل الحب العنيد، النقي،الأبدي،ارتجل هذا الخوف،هذا الموت ،هذا الظلام فينا خفيفا وارحل،لنغرس في أرضنا حدائق حب جديدة ،لنحلم بأمل سعيد يعود إلينا بأزهار البنفسج .