إنّ العظمة أحياناً بل غالباً تقتضي أن يسبقها حياة في الخفاء والظلّ، تُظَلِّلُ على صاحبها وتُخفيه عن عيون الحاقدين والمتربّصين والحسّاد، ومكائدهم الممكنة. وهذا التربّصُ والكيدُ يتفاوتُ على حسب نوع العظمة والأسرار المكنونة في الشخص، فإن كانَ مصلحاً من سلك الصالحين والرّبانيين السّماويين فحينها يكونُ العدوّ شياطيناً من الإنس والجنّ. إذا رأووا ما يهولُهم ويخيفُهم نصبوا مكائدهم لوقف هذا المشروع المتمثّل في تمكين هذا الشخص. وإن كان عظيماً من صنف آخر كعالم أو فيلسوف أو ناجح في المال والأعمال فالأعداءُ هو ما يُعادي وجودُ هذا الشخص مصالحَهُم، ذوو النفوس الضعيفة الخبيثة الحسودة.
وقد يختارُ الله لعبده المكنون هذا حياةً في الماضي، يعجزُ العقلُ والنَّاظرُ قراءتها وعلاقتها بعظمته المنطوية فيه بعد ذلك. ليس ذلك في جميع الحالات، ولكن توجدُ مثل هذه الحالات. ودورُ تلك الحياة السابقة هي الحماية والتظليل على هذا الشخص ليبقى في الخفاء، فلا يتربَّصُ به المتربّصون، وليصنعَهُ الله على مَهْلٍ، وفي ظروفٍ تجعلُ حتى حسّاده يرتاحون للظروف التي هو فيها، والحياة التي يعيشُها من حيثُ الظاهرية وحتّى الاستقراء العاديّ العقليّ لتلك الحياة والظروف فلا يشهدونَ الخطرَ، ولا تستَحِثُّ تلك الحياة والظروف المُظلّلة والمُضَلِّلة إن شئنا كذلك، لا تستحِثُّ عند هؤلاء الأعداء والمتربّصين الدوافع القويّة للكيد والتربّص، وهم يرونَ أنّ أقوى ما يصنعونَهُ من ظروفٍ وأحوالٍ قد لا تُقارِبُ أصلاً هذا الذي يعيشُه هذا الشخص. وكذلك مكرُ ربّك وأقدارُهُ العظيمة الدّقيقة العميقة البديعة. أقدارٌ تجمعُ بين أهدافٍ متعدَّدةٍ لصناعة هذا الشخص العظيم وإعداده الأوّليّ الخاميّ.
وقصّة سيدنا يوسف عليه السلام فيها من هذا المعنى، فعاش مملوكاً وخادماً في قصرٍ، بعيداً عن العيون والمتربّصين، ثمّ كان السِّجنُ مرحلة أخرى قبل التمكين. ثمّ مكّنه الله تعالى وأرسله للنّاس عزيزاً وحكيماً ونبيّا رسولا عليه السلام. فواجه أعداءه من الكفرة والكهنة وأنقذ نصف الكرة الأرضية من كارثة مهلكة في زمانه. وأعلى الله به قدر أهله وذويه.
والخلاصة لا تحقِرْ أحداً مهما بدا لك من صغر أفعاله وحالِه، فقد يكونُ عند الله مُدَّخراً ومنزلتُه أكبرُ من منزلتِكَ وأقربُ إليه منك.
ولئن كان شأنُ الأنبياء عليهم السلام العصمة حتّى في صناعتهم السّابقة والقبلية قبل بعثاتهم، فإنّ غيرَ الأنبياء من الأولياء والعلماء والصّالحين والمصلحين صناعتُهم ليست بالضرورة قائمةً في دائرة العصمة والحفظ من الخطأ، بل الشأنُ أنّهم ليسوا معصومين، وإن اختلفتْ أحوالُهم وظروفُهم، وكان منهم من نشأ على الحفظ منذ ولادته أو صباه وكبُرَ على الطاعات.
ومهما اعتقَدَ البعضُ أنّ الشّوائبََ حائلةٌ عن خلوصِ أصحابِها، وبلوغهم ما بلغَ الأوّلون الذين نشؤوا في ظلّ ظروفٍ قليلة الشّوَائبِ، خالية من الأكدارِ، والبيئات الملوّثة، كما هو حالنا وحالُ العصورِ المتأخّرة العامرة بالشوائب والتلوّث، فيحكمونَ بهذا الاعتبارِ على فضل الأوّلين إطلاقاً، أنّهم نشؤوا وترعرعوا في الأجواء النقيّة السّليمة الخالية من الشوائب، فجاءت معادُنُهم أصفى وأخلَص. فمهما اعتقدَ البعضُ هذا الاعتقاد وتوهّمُوا هذا الوهمَ والزّعمَ الظاهر، فقد أخطؤوا الُحكمَ، فحكمُوا بالفضلِ وفق الخلوص من الشوائب فقط، وهذا إن كان أحد الشروط الموجبة للفضلِ، فهو ليس جميع الشروط. إذ الفضلُ في الحقيقة راجِعٌ لنوع المعدن وسرّه، فلئن خلُصتِ الفضَّةُ، ووجدناها خالصةً من الشّوَائبِ، حكَمْنا عليها بالخُلوص، وقلنا هذا معدن خالصٌ من غير تعريضه لفتنة التطهير. ولكن قد نجِدُ ذهباً رفيعاً مشوباً بمعادن أخرى وشوائبَ تشوبُهُ، فيُكلّفُنا تطهيراً وفتنةً كبيرةً لتطهيره وتخليصه من شوائبِه التي تشوبُه وأكدارِه، ولكنَّهُ إذا خلُصَ هذا الأخير، فسيصيرُ إبريزاً أرفعُ وافضلُ من الفضّة بلا ريب. وكذلك الحالُ للمتأخرين. فلا يُحكَمُ بالتعميم على الأفرادِ إذا كان الزمانُ قد تردّى عن أزمنته السّابقة، فقد يحملُ الزمانُ المتأخِّرُ معادِناً أرفَعَ وأفضلَ وأعلى، ويصنعُهاَ الخلوصُ والتطهيرُ، فيُعيدُها لصفائها ونقائها الأوّل. فتغدُو في الحُكمِ والأصلِ أفضلَ وأثمن وأحسن وأصفى وأجمل ... والله أعلى وأعلم.