في ساعات الصباح الباكر استيقظت على وقع رنين الهاتف، نهضت بتثاقلٍ وتحسست بيدي مكان هذا الجهاز المزعج وكأني عجوزٌ أعمش يتخبط بهراوته في الظلمات، لقد خففت الوسادة على ما يبدو من صوته وصياحه المتواصل والمستمر حتى أدركته بعد لاي.
- نعم.
- معذرة على الإزعاج، أريد مقابلتك لأمرٍ هام، أرجوك.
- ما المشكلة، لقد أفزعتني ؟
- لا يمكن أن أشرح لك عن طريق الهاتف.
لقد أصابني صوته اللاهث وكلماته المتقطعة بالخوف والذعر، يا ترى ما المشكلة وما الأمر الطارئ الذي دعاه لأن يطلبني على وجه السرعة في هذا الوقت المبكر، وفي أول يومٍ من إجازتي الرسمية ؟
- حسناً سأكون عندك بعد قليل، انتظرني فحسب.
انطلقت حيث المكان المزمع أن ألتقي به، والأفكار الأبليسية تعصف بدماغي كقارب تائه في بطن المحيط.
- ما بك يا ( أيمن ) ؟
ظل لدقيقة مطأطأ الرأس، أزاح كفيه عن وجهه فتكشف عنهما وجنتان محمرتان كالجمر وعينان نديتان، عدّل من جسلته، ثم راح يحكي ما حصل له.
لقد ارتكبت جريمة فظيعة، ووقعت في ورطة عسيرة المخرج، وأريد منك يا صديقي العزيز أن تنتشلني منها، كما تعلم فأنت أعز صديق لدي، وكاتم أسراري.......
- طلبت منه أن يكمل، فلم تعد أعصابي تتحمل أكثر من ذلك.
واصل ( أيمن ) حديثه وقال:
بعد انتهائي من فترة الدوام الرسمي قبل يومين، لمحت زميلة لي في العمل، أجنبية من أصولٍ عربية، كانت واقفة عند مدخل الشركة، وبجوار مركبتها المتعطلة، فعرضت عليها مساعدتي، إلا أن محاولاتي الحثيثة في إصلاح هذا العطب باءت بالفشل، فاضطررت إلى أن أقلها لمسكنها.......
- نعم، واصل.
دعتني للداخل من أجل شرب كأس من العصير نظير خدمتي لها، فوافقت بعد إلحاح.
غابت لدقائق وأنا في انتظارها في الصالون ثم أطلت متخففة اللباس، كانت أنيقة للغاية، فستانها الأحمر القصير أضاف عليها مزيداً من الجمال، شعرها البني المتموج والمنسدل على كتفيها ومشيتها المتمايلة بغنج، ابتسامتها الساحرة وعطرها الفوّاح أصابتني بالسكر والاندهاش.
توقف ( أيمن ) قليلاً عن الكلام، ثم أشعل سيجارة ودفن عقبها في فمه وراح ينفث دخانا في الهواء، ثم أضاف:
أخذ قلبي يزداد وجيبه، رجلاي ترتجفان، العرق يتصبب من وجهي. أيقنت بعد ذلك أن لهذه الفتاة مآرب خبيثة تدفنها داخل رأسها، حاولت مباغتتها والهرب منها إلا أن الأبواب كانت موصدة بإحكام.
لحقتني وطوقتني بذراعيها وشدت عليّ كأفعىّ سامة حتى سقط برج مقاومتي، لقد دلع إبليس لسان الغواية ولعق على إرادتي حتى انفك خيط المقاومة وتزحلق من بين يديّ، لقد استسلمت أخيراً لرغباتها وغرقت في مياه غوايتها الآسن، ولم أفق إلا وأنا ملطخٌ بعار الرذيلة، ها أنا ذا أشعر بالندم، أشعر بالاشمئزار، أشعر بالكآبة وبوخز الضمير. يومان وأنا أعيش هاجس الاضطراب والقلق، لم أعد أجرؤ حتى على النظر في وجه زوجتي وأبنائي.
لقد وُضعت يا صديقي في موقفٍ لا يُحسد عليه، كل الأمور كانت ضدي، الزمان، المكان، المكيدة، لو كنت مكاني كيف ستتصرف ؟
- ...........
واصل ( أيمن ) حديثه وقال:
ولكن ليت المشكلة وقفت عند هذا الحد وانتهت.
- ماذا بعد ؟
تلفت يميناً وشمالاً قبل أن يقرب رأسه ناحيتي ويواصل حديثه، فقد بدأ الناس بالتوافد شيئاً فشيئاً للمقهى.
- لقد أرسلت لي البارحة على جهاز الهاتف الجوّال مقطع فيديو يصور الأحداث الساخنة التي دارت بيننا، وطلبت مقابل عدم نشره والتخلص منه مبلغ ثلاثمائة دينار، أقسم بالله أن ربع هذا المبلغ لا يوجد عندي.
هددتني هذه الفتاة الترعة إن لم أستجب لطلبها هذا اليوم وأسلمها المبلغ المطلوب الساعة الثالثة عصراً كحدٍ أقصى، فإن هذا الشريط سيكون منتشراً في اليوتيوب وعلى أوسع نطاق.
لقد حملتني أجنحة الخوف إليك والاستنجاد بك، علني أوفق وأخرج من نفق الفضيحة معافياً سالما.
قلت له:
- لا بأس يا صاحِ، فدمعتان على وشك النزول، سوف أعطيك المبلغ المطلوب وادعو الله أن يتوب عليك ويغفر زلاتك، وأن تفي هذه الفتاة بوعدها ولا تعود ثانية لابتزازك وتهديدك.
ذهبت معه لأقرب مصرفٍ وسحبت له المبلغ المطلوب وسلمته إياه، طبع على خدي قبلة وشكرني بحرارة ثم اختفى كنيزك يمر في السماء.
من الجميل والرائع أن تنتشل شخصاً من مستنقع الضياع، وتكون سبباً في عدم تعاسته وتهاوي بيته، خاصة إذا كان هذا الشخص من أعز وأقرب الناس إليك، لا شك أنك تشعر حيال ذلك بالنشوة والزهو.
في المساء لمحت صديقي ( أيمن ) وهو يخرج من محلٍ لبيع الهواتف النقالة، أردت أن أستعلم منه عن موضوع اليوم والذي لم يبارح مخيلتي قط، وقبل أن أصيح عليه مناديا، ركب سيارته وانطلق الهوينى إلى جهة غير معلومة.
دخلت المحل لأستعلم الأمر من صاحبه، بعد أن تسلقني الفضول.
- مرحباً، ماذا كان يفعل الزبون ذو القميص الأزرق الذي خرج قبل قليل ؟
فرد عليّ، ومن تكون بالنسبة له ؟
- صديقه.
- وما اسمه ؟
- ( أيمن )، أيمن يوسف.
أسقط الرجل عينيه في الأسفل وكأنما يتحقق من صحة الاسم ثم أجاب:
لقد اشترى جهاز تلفون، يقول أنه سيهديه زوجته هذا اليوم في عيد ميلادها.