الجار..
تعرفت عليها في الحي الشعبي..امرأة من بلاد الإنجليز ..مسنة لا تستيقظ من السكر إلا لتعود للنوم فوق زجاجات " الروج" من فرط احترامها للحي تضع السائل الأحمر في قارورة نصف ليتر تلك التي تباع فيها المياه المغربية ..فيخال الناظر إلى الزجاجة أنها ليست ممتلئة بالمياه الصافية العذبة ذات السعر المرتفع ..بل بسائل أحمر.." إنه دواء لعلاج البرد" هكذا كانت تجيب حين يسألها أطفال الجار ..جارها المسلم الملتزم .." رائحة ..كريهة" ..يهمس الأطفال في أذن بعضهم البعض .." رائحة ال"بينو" (الخمر)".." دواء..كم هي مغفلة .." وكمن يقوم برتق قاع سروال انشق انشقاق قارة عن أخرى..تتدخل الأم المتورطة في استقبال المرأة العجوز بمنزلها.." كفى ..هذا دواء خاص بها ..رائحته تشبه رائحة الخمر..".. " دواء ..نحن نعرف انه ليس بدواء .." يرد الأطفال .." دواء ..دواء يجعلها تتعرى ..؟" ..الأم تحتاج للسيدة العجوز..والعجوز ذات الشعر المقصوص إلى حد سطح الجلد..هي أيضا تحتاج لخدمات الجار المسلم..تحتاج إليه للقيام بخدمات ضرورية بمنزلها الذي اشترته منذ مدة..وأقامت فيه لإعجابها بالمدينة وبمعمارها الفريد..عند التقائي بها أول مرة قبضت على يدي وجرتني كخروف إلى منزلها..صعدت الأدراج الضيقة الخانقة المظلمة ذات العلو الزائد عن الحد المعقول.. يستحيل أن تسع جسد شخص مفرط في السمنة.. لكنها تصلح للتقليص من حجمه.. لن يقوى على رفع قدميه من درج إلى آخر..وهنا تكمن المشكلة..قيل لي أنها عندما تستقبل الطفلين المراهقين البالغان سن الرابعة عشرة..تمارس نشاطها المعهود..فقد كانت راقصة" البالي "..وهذا ما جعلها رشيقة نحيفة..معجبة بنفسها وبلغتها الأم إعجابها بتلك الأدراج العجيبة..وهي معجبة بمنزلها وبالأثاث الذي اقتنه من بلادها..وهو طبعا منتشر في أسواقنا السوداء خاصة تلك القريبة من الحدود الاسبانية..وكل المنازل المتوسطة الحال اقتنته لكن دون علمها ..وهذا يفسر سبب حماسها ودخولها وخروجها من غرفة نوم إلى المطبخ فالحمام ثم السطح..ومنه إلى غرفة الضيوف التي تصل مساحتها حد علبة كبريت..وأنا وراءها أبدي إعجابي بما سبق لي رؤيته في أسواقنا السوداء..إلا القليل منه شاهدته في البازارات أو في بعض البرامج التلفزيونية كتلك التي تتحدث عن نسبة إقبال السياح على المدن المغربية كمراكش..ومن فرط غرورها وشعورها باختلافها وتميزها عن ساكني الحي الشعبي الفقير..بالغت في شرح وظيفة كل آلة ..فهذه لغسل الملابس وتلك لغسل الصحون وهذه للموسيقى ثم لا شيء آخر يثير الدهشة ..فقط هذا الشرح الممل بلغتها التي لم أفهم ولو كلمة منها سوى الإشارات التي تعقبها ثرثرة توجع الرأس ورائحة السكر التي تجعل عالم السيدة مختلف حقا عن عالم الجار المسلم..أغرب ما حصل بعد تعرفها على الجار المسلم..إفراغ مادة" الروج" في قارورة المياه ..لم يكن في إمكانها دخول منزل الجار بدونها ..هي تحملها شتاء وصيفا ربيعا وخريفا..مثلها مثل "شكري " جارنا الكاتب العمومي الذي يعيش هو الآخر وحيدا ..ترافقه القارورة الصغيرة الحجم أينما حل وارتحل كأنها مصاصة رضيع..أعجبت السيدة العجوز بجارها المسلم..رأت فيه نموذج الرجل الذي تحتاجه المرأة عندما يتقدم بها العمر..بمثله تحلم كل امرأة في نهاية العمر ..خدوم ..يكاد يكون نبيا لو أن الأنبياء لم يسبقوه في الوجود قادر على حماية السيدة العجوز التي فارقتها لذة العيش بموطنها الأصلي ..إنها من نساء إنجلترا اللواتي لفظتهن السحب الداكنة ..الضباب الخانق ..والتماثيل الباردة من البشر الخالي من المشاعر إلا من حب المادة والتسابق على امتلاك الثروة ..ظلت تغزل الضباب إلى أن أدركت أن الجلباب الذي يلبسه رجل مسلم في حي شعبي وحده يستطيع أن يعيد لها الفرحة المفقودة بالحياة ..لم هذه السيدة أعجبت بتلك الأسرة ..بهذا الزوج المسلم المخلص لزوجه، لعمله، لأولاده؟ ..إنه ليس مثل هؤلاء السكارى الذين ينعمون بالثرثرة في الفنادق الفاخرة ذات النجوم المضيئة المغرية ببدل المال وضياع الوقت وتبول القيم والأخلاق التي تتلاشى مع أول كأس تفرغ في جوف عقولهم الفارغة ..ما تزال في هذه الحومة الفقيرة قيم جميلة لم تعد غاية للسلوك ولا هدفا لعلاقة الجار بجاره والصديق بصديقه والأخ بأخيه....ها هي تطرح السؤال عن علاقة هذا المسلم بالإسلام الذي تسمع عنه من مختلف القنوات إنها حائرة ..تستسلم لهواها قائلة حين لا تجد قدرة على قبول ما لم تتعود عليه .."أنا لست متدينة ..أكره السياسة"..وتضيف:"لكن هذه الأسرة المسلمة قبلت بي ..؟"ظلت تردد هذا الكلام كلما احتاجت إلى خدمات هذا الرجل المسلم ..وكلما تعرفت على غيره من رجال المدينة كلما رفعت من شأنه عاليا وكسبت رهان الثقة بنفسها وبالآخر المختلف عنها تمام الاختلاف ..هي موسرة وهو فقير ..هي متعلمة وهو أمي لكنه أغنى من الأغنياء بما يملك من صفات مرغوبة ومحبوبة ..تحدثت عن صفاته مع زملائها الأجانب القاطنين بالبلدة لحد أن أحدهم استدعاه ليستفيد من خدماته التي تصفها العجوز بالمهارة والإخلاص والنزاهة.
الرجل المسلم في خدمة الاسباني
أعجب زميلها هو الآخر بالرجل المسلم..وفي الأيام الثلاث الأولى كان مزاجه يسمح له برفع صوته عاليا ممجدا عمله فتشعر لشدة قوة الصوت بالجدران وكأنها على وشك الوقوع من فرط فرحه واغتباطه..قابل الرجل المسلم هذا الحماس الزائد بحماس مماثل تجلى في سرعة الأداء ..دقة العمل ومهارة الصنع..فالشغل الجديد ملاه بمشاعر لا عهد له بها ..أنسته بطالته المستديمة وعلاقته المتوترة مع ذاته..وغالبا ما تكون الفرحة سببا في حصول كوارث غير متوقعة تصل إلى حد الموت ..خفة الجسد ورشاقة وسرعة حركة اليد والعقل معا لاتمنع من حصول ما لا يرغب فيه ..وما حصل للرجل لم يكن متوقعا ..إذ سقط من فوق سرير خشبي صنعه ليضع اللمسات الأخيرة على الجدران العالية الباهتة التي جعلها التقادم تتقشر وتتعرى من جمالها البائد وكأنها جسد مصاب بمرض البرص ..شاءت الأقدار أن تضيف إلى رصيده من البطالة هذه النازلة التي لم يملك معها غير الاستسلام مواسيا نفسه بتلك المقولة التي تتكرر على لسانه وتزيد من تخفيف حدة عنف الحال ومساوئه.. : " المؤمن مصاب.." والآن ..من يعيد لمنزل قديم اشتراه الاسباني بعملة صعبة ترفع السوق على المواطن العادي وتلقي به إلى الضواحي بعيدا عن السوق والمدرسة والحمام..من يعيد لذلك المنزل القديم رونقه..؟ ..حين شعر الاسباني بالفتور الذي ساد الجدران ..أسرع يطرق باب الرجل المسلم ..فخرج للقائه متكئا على عكاز.." لا باس ..لاباس .." رد مبتسما من شدة الخيبة والوجع ..لاحظ الاسباني بقعا زرقاء تمركزت يسار جبهته ..قريبا من تلك البقعة السوداء الدائرية التي ترتسم على جباه الرجال المسلمين دون نسائهم.." يجب الذهاب فورا إلى المستشفى.." كان هذا ما يجب أن يفعله الرجل المسلم ..لكن هناك في ردهة المستشفيات شباك يلزم بالأداء.. جيب الرجل فارغ فراغ أغلب أيامه من الشغل ..في الغد استأنف عمله لكنه لم يقو على تحريك يده..فعاد إلى بيته خائبا متوسلا من الله أن يعيد له صحته فهي رأسماله الوحيد وصندوق توفيره الفريد .. الزوجة استغربت عودته الفورية من العمل ..أصابها ذلك بالهلع والقلق على مصير الأولاد ..لكن دخول السيدة الانجليزية المفاجئ أعاد لها الأمل في عمل محدود ..فقد تحصل أعطاب في أسلاكها الكهربائية..في حمامها ..مطبخها ..وقد تحتاج إلى صباغة سطح منزلها ..المنازل القديمة تحتاج مثلها مثل العجزة إلى عناية فائقة..
مر يوم آخر والاسباني يأمل هو الآخر في أن يستأنف الرجل عمله ..لم يشأ أن يأتي بعامل جديد..فضل الانتظار ..مضطر لذلك فضالته لاتوجد في غير سمات هذا الرجل المريض بالذات ..أعجب بصفاته ليس لان السيدة الانجليزية لا تتوقف عن التنويه بها ..بل لأنه اقتنع أن يده رخيص ثمنها..في اليوم الرابع لم يكن هناك مفر من العمل فقد نفذت المؤونة ..المدرسة لها صوتها الخانق..ورغم بساطة الديانة فإن لها حاجيات هي الأخرى..الجسد يتأوه من الداخل ولا رحمة..الاسباني تنكر للرجل..رفض أن يؤدي له أجرة يوم سقوطه عن السرير الخشبي ..وبمرارة وتحدي واحتجاج بطولي غادر مقر العمل وهو يعرف أن أنف هذا الرجل البالغ الطول.. يذكره بهؤلاء الذين يحصلون على الجنسيات الأجنبية وهم من أصل يهودي..وهكذا أدرك سر وجود تلك السداسية في غرفة نوم السيدة الانجليزية.." إنها أرحم من الرجل الاسباني ".. كذلك فكر وهو ينتظر أن تشير عليه بعمل ما ..