سليمانُ الحكيم /
أغلقتُ بابَ السيارةِ الحمراء, وبدأتُ أسمع وقع أقدامي على الطريق,
نفضتُ عن جسدي غبار الشارع، إلى أن وصلت إلى المكانِ المحددِ للّقاء.
تدق الساعةُ دقتَها الثانية بعد اثنيْ عشرة دقةً منذ بدايةِ اليوم..اقترب موعدُنا..وبدأ القلقُ يجتاحُني بخبثٍ يبتغي أن يُعَكِرُ صفائي المرسومَ على وجهي.. ويريدُ أن يأنبَ جسدي من قلةِ الغبارِ الجاثمِ عليه، بدأتُ بمراقبةِ عقاربِ الساعة كلَّ ثانيةٍ تلدغ جلدي وتفتتُ خليةً دماغيةً واحدة أو اثنتين وأحيانًا ثلاثة.
أسيرُ قليلًا مبتغي الطابقَ العلويَ من المكان – الجمعية – أرتبُ الكلماتِ في ذاكرتي, وأفكرُ في كيفيةِ بدايةِ الحديثِ معه, فقد كان الموعدُ الأولُ لي خارجَ نطاق العادة !
دقَ الموعدُ جرسَهُ على رأسي- الساعةُ الثانيةُ وعشر دقائق- ولم يأتِ.. تأخرَ سليمانُ عن اللقاء !
وبدأتُ في تكوينِ سلسلةٍ لا متناهيةٍ من الاحتمالاتِ اللعينة, كم كنتُ أكرهها – الاحتمالات- لم أتميزْ بها قطُّ في المدرسةِ ولا حتى في الجامعة.
نسجتُ ثوبًا ناصعًا من الأعذارِ الكثيرة.. قلتُ: ربما أصابتهُ حماقةُ شرطيٍ, أو خانته الكهرباءُ ولم تسعفْه كي يكوي قميصَهُ الرمادي, أو ربما خانه المكانُ أو داهمهُ الوقتُ فنسيتْ أقدامُهُ السيرَ بسرعةٍ أكثرَ بقليل..ثمةَ سببٌ أنجبَهُ رأسي وحملتُهُ في يدي ونسجتُ بهِ ذاك الثوبَ الناصع.
افتتحتْ الدقيقةُ الثانيةُ عشرِ حجرتَها الأولى في شعرةٍ بيضاءَ في رأسي, فتسللتْ منها كومةُ ذكرياتٍ إلى ذاكرتي, وطاف القديمُ بي, رجعتُ إلى ورائي, تذكرتُ أمسي , سنواتٌ مضت وأتتْ في ذاك التوقيتِ عليَّ متواترةً محملةً بالحنين..
درسُ الرياضياتِ الذي اجتمعنا فيهِ ولم نكنْ نكترثُ إلى قيمةِ اللقاءِ وقتَها, لم أكن أعرفهُ إلى ذاكَ الحد الذي يجعلني أتجولُ معهُ في أنحاءِ مدينتِنا دون توترٍ أو تلعثم.
ربما ذاكَ الجدارُ الإسمنتيُّ بين فصلي ومدرستِه كُسِرَت على أصدفِهِ صداقةٌ أسطوريةٌ بين عقلينِ لم يعبّران في يومٍ عن الواقعِ الواقعْ, كلاهما مفتوحٌ كالكتابِ تكادُ التقاليد تخترقهُمأ لولا الحذر الدائم.
أفيقُ من غيبوبةِ الذكرياتِ على صوتِ الهاتف, أمسكهُ وأرتجفُ رجفةَ صغيرٍ : ( وينك يا زلمة إلي ساعة بستنى فيك) فيردُ وكأن صوتَهُ يثيرَ الحياةَ بداخلي : (هيني عالباب..انزلي) .
كم غصةِ انتظارٍ تبخّرت الآن ! أركضُ إلى البابِ السفليِ وأنا أحملُ كلَّ أشيائي القديمةِ على كتفي أريد أن أودّعَها في عينيه، أريد أن أضعَ يدي على كتفِه وأتجولَ معه بين كلِّ زوايا جسدِ المدينة شارعًا شارعًا وغبارًا غبارًا وعتمةً عتمة.
أصِلُ البابَ وأنا مفرَغٌ تمامًا من كلِّ أوجاعِ وأشجانِ الانتظار، أتلفتُ حولي فألتقطهُ, ها هو أمامي بهدوئه وشخصيتِه الفاتنةِ الجذابة، والنرجسيةِ أحيانًا, أحيانًا كثيرة كنت أودُ أن أهمسَ في أذنِه وأقولَ لهُ : ستكونُ ناقدًا كبيرًا وأستاذًا يحبهُ طلابُه ويحتذون به..
ولكني كنتُ في كلِّ مرةٍ أتراجعُ عن تلك الفكرةِ التي لم يتبناها عقلُهُ قط.
كان دومًا يحدثني عن سرقتِه للوقتِ في مكتبةِ أبيه الجاثمةِ في الطابقِ العلويِ من بيته وعن أولِ قبضةٍ تمتْ عليه هناك متلبسًا هو والكتابُ وحيدان.
حدثّني عن حبيبتِهِ التي تركَها لجهلِها أساليبَ الحوارِ والتفاهم ، هو هكذا يكرهُ غيرَ المثقفين مثلي.
بدأنا بتحسّسِ النظرِ إلى بعضِنا بخفيةٍ ومكرٍ خفيفيْنِ كجسدِ الحمام.
أسلّمُ عليه في حيرة من أمري، لا أعرفُ ما أقول , فعلى عجَلٍ أفتشُ زوايا جسدي مستنجدًا بأيِّ سؤالٍ يُبعثرُ حيرَتي وتشتتَ أفكاري..فأسأله عن أحوالِه وكيف كان الطريقُ إلى الجمعية، وعن أخبارِ سائقي التكاسي وآخرِ حكاياهم - الطازجة – التي لطالما لوّثتُ أذني بها ، يبادلني التشتتَ ويأخذُ ظلّي بجانبه, نسيرُ إلى مبتغانا في أجواءٍ متنكرةٍ عن العاداتِ في أجواءٍ مقتطفةٍ من سحاباتِ الصيفِ النقيةِ العابرة, لا تضيرُ الطيورَ , مشاعري الآن غيرُ أُنثَـوية, مشاعرٌ محشوةٌ بالأخوةِ وإحساسِ الاكتمالِ الذي لطالما بعثرتْهُ وحدةُ الشخصيةِ وأسبابٌ كثيرة كانعواجٍ في ساقِيَ اليمنى أخفيهِ ولا يختفي يؤرّقني أمامَ مرآتي , يؤنبُني ويهرب.
أحادثهُ: أكره التقاليد ذاك الشبحُ الكبيرُ الذي أنثَ الحب، تقاليد وقحةٌ ولا تكترث لشعورِ المثقفين, تقاليد متناقضةٌ في كلِّ شيء، حتى في تفاصيلِها وأشلائها المتناثرة , فيوافقني الرأيَ ويطأطئ رأسَهُ وتكادُ يداهُ تسفّقُ من شدةِ اقترابهما , فتخرجُ من قلبي ابتسامةٌ
صفيةٌ تزينُ تفاصيلَ وجهي والجبين.
يسألني بعد خمسِ شهقاتٍ متواتراتٍ : ماذا عن اللقاء ؟
كانت ملامحُ وجهِه تتقلبُ كلَّ عشرين ثانية, كنتُ أعتقد حينَها أنه لم يعتدْ عليَّ بعد, ولكني اكتشفتُ فيما بعد أنَّ هذه من صفاتهِ التي تخنِـقُ شخصيتَه أمامَ الآخرين.
أخبرتهُ أنّ الجميعَ في انتظارِنا, وبات بيننا وبين القاعةِ بعضُ المسافاتِ المتباعدةِ عن بعضِها بالاعوجاجِ الخفيفِ في تسويةِ الأرضيةِ الإسمنتيةِ, كم كان الوقتُ لطيفًا! فارغًا تمامًا ونحن كاللصوصِ نتحسّسُ المكانَ ونسيرُ كجناحَيِّ طائرٍ فَرِحٍ بعشٍ جديد.
كم كان صعبًا عليّ حينَها أن أقولَ لهُ أحبكَ يا صديقي..لم يكن من المعتادِ في عادتنا !
فالعادات تخبرنا أنّ كلمةَ أحبكَ تقالُ بين الذكرِ والأنثى العاشِقيْن , وهذا هو الحبُّ الذي عرفناه مُذ وُلِدنا وحتى الآن بل وإلى الغدِ وما بعدَ الغد , لم نعتدْ أن يقولَ صديقٌ لصديقِـهِ أحبكَ يا صديقي !
لماذا ؟ أكان الحبُ نكسة ! أو أنّ الاعترافَ بهِ كاعترافنا نحن الفلسطينيون بإسرائيل !
نعم أحبهُ ولا أريد أن أخفِيَ ذلك ، أريدهُ أخًا لم تلدْه أمي, وظلًا لم تلدْهُ شمسي, أحمي عينيه من حقدِ النساء, وأراسلهُ وألتقيهِ كلّما أسعفني وقتي وسمحَ وقتُهُ, يكونُ لي ضياءً في حياةٍ مظلمةٍ ومختنقةٍ وملطخةٍ بدماءٍ تسيلُ على وجوهِنا كلَّ سنةٍ أو أقلّ .
بدأنا نتحسسُ عتباتِ الدرجِ والحديثُ يوشكُ على الغروبِ, كانت مدةً طويلةً من البابِ إلى العتباتِ ولكنها لم تحملْ معها انتظارًا , كانت جميلةً ومرصعةً بالياسَمين.
ها نحن نصعدُ الدرجاتِ , نعدُّها كما نعدُ أحلامَنا قبل النومِ, ويبدوُ أننا حتى في الأحلامِ سواسيةٌ في العدد !
مضيْـنا ولم نمضِ , وصلنا ولم نصلْ , كلانا محملٌ بالأماني والأغاني, سنبحثُ عن ذاتِـنا من اليومِ حتى الغد وحتى مجيءِ الكهرباء إلى البيوتِ !