رجعتُ هنا لاستحضارِ أمرٍ قد يخفى .. لأنّ المتلقّي قد يتلقّى الشعرَ مجرّداً من سياقه الحدثي والانفعالي الذي ساقه وتسبّبَ في صدورِه .. وهذا التلقّي الساذج الأوّلي المتجرّد من السّياق في الحقيقة هو عامِلٌ من عوامِل عدم رؤية الصورة كاملة وعدم قراءة القصيدة بخلفياتها التي بعثتها ..
فقد يأتي فخرٌ مدوّ وعزّة ضاربة وتدها في الأرض واستعلاءٌ يجاوزُ قمم الجبال الكبرى لا لشيءٍ إلاّ لضرورة الموقف وسياق الأحداث وموجباتِ ردّ الفعل أو الفعل ..
بيدَ أنّ هذا الفخر وهذا الموقف لا يُعبّرُ إلاّ على الجوابِ اللاّئق في ذلك المقام وذلك الموقف، وهو الفخر والعزّة والاستعلاء حتّى لا يبقى في المقابل ما يحومُ حولَ الحمى يوشِكُ أن يرتعَ فيه ويوشِك أن يتجاوز الحدّ وينالَ من كرامتنا ومن عزّتنا ومن شموخنا ..
أقولُ هذا الاستطراد عن صدقٍ وتبيّنٍ وتفهّمٍ، لأنّني عايشتُ مثله وفي مواقف كثيرة ... يراهُ القارئ الساذجُ لا لسذاجته ذمّاً بل يُقصدُ بالساذج هنا أنّه غائبٌ عن السياق والخلفيات وحقيقة ما بعثَ الموقف وردّ الفعل .. فيراهُ هذا القارئ المتجرّد عن خلفياته مستغرباً كمّ التعالي فيه وكمّ الفخر وكمّ الاستعلاء الذي يُطاولُ الجوزاء ، فلا يفهَمُ منه إلاّ ما قد يجعله مستهْجِناً لذلك الكمّ الفخريّ والاستعلاء أو متسائلاً متحيّراً !! وهو لا يدري أنّ الموقف والسياق اقتضى مثل هذا.
لذلك فالشعرُ جاءَ من الشعور، والشاعرية أي تحويل ما يعتمِلُ في الدّاخل الى شعرٍ يؤسّس مشاعرنا إن كانت عزّة وفخراً واعتداداً واستحقاقاً نراهُ لائقاً بنا قد غمطنا بعضُ من يحسدُنا أو بعض من لم ينصفنا أو بعض من لم يفهم عنّا فيخرجُ الشعرُ مترجماً عنّا كأقوى ما يكونُ، مهمّته الحماية والذوذ والترهيب عند الثغور والحدود. تماماً كجند الثغور وحرّاس الحدود مدجّجين بأسلحتهم ومنتبهين يرسلون رسالة للعدوّ أو المتربّص أو الطامع او غير ذلك أنّنا هنا حاضرون وجاهزون.
وقلتُ إنّ لي مثل هذه المتنبّيات، ومصطلح متنبيّات عندي لا أقصِدُ به معنى ذاهباً في الذمّ، كلاّ ، بل يعني ما اشتهر به المتنبّي من فخريات واعتداد .. فضلاً أنّني أسمّي ما صدر عنّي متنبيات. فهو اصطلاحٌ مجازيّ والمفروض أنّه لا يخفى على أهل الشعر والأدبِ ..
فالخلاصة أنّنا أحياناً نضربُ في أعالي الجوزاءِ فخراً واعتداداً ولا يكفينا ذلك شعراً، لأنّنا نسوقُ ذلك عدلاً وسياقاً فرضته أحداث علينا وسياق ما ..
والعفو منكم ، والتحيّة السامقة لصاحب المعلّقة الفخرية هنا أستاذنا د.سمير العمري حفظه الله تعالى وسدّد خطاه .. آمين