أَتَدَاجَى فِرَارًا مِنْ قَسْوَتِهَا ...
لاأَحْسِبُ الْزَمَنَ , وَكَمْ مَرَّتْ مِنْ سَنَوَاتِ عُمْرٍ مُهْتَرِئٍ غَيْرَ شُعُورِي بِكُهُولَةٍ مُبَكِّرَةٍ, وأنَا دُونَ الثَّمَانِيَة عَشْرَ رَبِيعَاً .
لاأعْرِفُ مِنَ الْحَيَاةِ إلَّا كِتَابَاً ومِقْعَدًا دِرَاسِيَّا تُصَفِّدُنِي عَلَيْهِما كَآلَةٍ تَتَحَرَّك وِفْقَاً لإشَارَاتِهَا بِالْإصْبَعِ فَأَهْرَعُ لِتَلْبِيةِ مَاتُرِيدُ؛ كَيْ أحْظَى مِنْهَا بِنَظْرَةٍ يَبِيسَةٍ لارُوحَ فِيهَا
رَغْمَ أنِّي أَرَى أُخْتِي الَّتِي تَكْبُرُنِي بِعَامٍ وَاحِدٍ تَحْظَى بِالْكَثِيرِ مِنَ الْاهْتِمَامِ والْرِعَايَةِ ونَوْعٍ جَيِّدٍ مِنَ الْصَدَاقَةِ, وأخِي الْوَحِيد الَّذِي يَصْغُرُنِي بِعَامَيْنِ كَانَ الْعَيْنَ, والْقَلْبَ, والْجَيْبَ .. وكَفَى .
والِدِي رَحِمَهُ اللهُ كَانَ يُحِتُّ مِنْ هَيْبَتِهِ أَمَامَهَا فَيُرْدِي جَافلاً مَابَيْنَ غَمْغَمَةٍ, ووَعْوَعَةٍ تَعِجُّ, ودَمْدَمَةٍ تَؤُجُّ .
انْطَلَقْتُ مُتَحَرِّرَةً مِنْ قُيُودٍ خَنَقَتْ رُوحِي, وحَظَيَ بِالْمُوَافَقَةِ مَنْ كَلَّ مَتْنُهُ الْوَحِيدُ, ولَا أدْرِي أنِّي كُنْتُ أهْرَبُ مِنْ جَحِيمِهَا لِأَرْتَمِي فِي أحْضَانِ الْلَظَى .
وَعَدَنَي ... أَنْ يَكُونَ لِي الدُّنْيَا, وأنْ أكُونَ لَهُ اليَد الأُخْرَى؛ فَكُنْتُ يَدَيْهِ وقَدَمَيْهِ أَتَمَرَّغُ عِنْدَ أعْتَابِ رِضَاه ,
سَمَعَاً وطَاعَةً ! سَلَبَنِي بِهَا جُلَّ إرَادَتِي, بَلْ وتَفْكِرِي حَتَّى اعْتَشْتُ أتَنَفَّسُ كُلَّ تَفَاصِيلِه ,
حَارَبَ مِنْ أجْلِ أنْ يَسْلُبَنِي دِرَاسَتِي الَّتِي كَانَتْ انْتِصَارًا لَهَا فِي مُوَاجَهَةِ نَظَرَاتٍ تَقْتُلُهَا, وأفْوَاهٍ تَتَشَدَّقُ غَمْزًا لأُمِّيَّتهَا, وكَانَتْ هِيَ الْفَائِزُ بِمِهْرَجَانِ خَيْبَتِي .
ادَّعَى أنَّهُ لَمْ يَعْرِفُ فَتَاةً قَط مِنْ قَبْلٍ, ولِعُقْدَةٍ مَا كَرِهَ كُلَّ نِسَاءِ الأَرْضِ .
صَدَّقْتُهُ .. رَغْمَ مَاقِرَعَ مَسَامِعِي مِنْ مُغَامَرَاتٍ, وعِلاقَاتٍ, وأَفْوَاهٍ تَتَلَوَّى اسْتِنْكَارًا مِنْ قَبُولِي الزَّوَاجَ بِهِ, ومَعَ ذَلِكَ أسْلَمْتُهُ قَلْبِي ؛ فَسَلِبَنِي كُلِّي لأَكُونَ لَهُ فَقَط انْتِقَامَاً مِنْهَا ... بَعْدَمَا هَدَّدَتْهُ بِتَطْلِيقِي مِنْه ؛ فَكَانَ اغْتِصَابَا حَلاَلاً .
ادَّعَى الثَّرَاءَ وتَحَدَّثَ بِلُغَةِ أَهْلِهِ, رَغْمَ أَنَّنِي لا أطْمَعُ سِوَى فِي ذِرَاعَيْنِ يُلَمْلِمَانِ شِتَاتِي, وصَدْرٍ يَحْتَوِي خَوْفِي, ولُقَيْمَةٍ تَسُدُّ رُمْقِي,
فَحَصُلْتُ عَلَى مَاكُنْتُ أتَمَنَّى , ويَزِيدُ ... ويَزِيدُ !؟
وبَعْدَ حِينٍ انْتَقَلْنَا لِقَفْرٍ خالٍ مِنَ الدِّفْءِ, فَارِغِ مِنَ الأمَلِ , يَفْتَقِرُ الرُّوحَ ... البَسْمَةَ ... الحُبَّ !
حَتَّى المَالَ الَّذِي ادَّعَى .
خَتَلَتْنِي لَوَامِعاً يَرُفُّ بَرِيقُهَا الزَّائِفُ ازْدَانَتْ بِهَا بِدَايَاتِ حَيَاةٍ مُمْتَهِنَةٍ؛
فَجَاءَ الذَّرَاعَانِ وَاحِدًا .. ورَضَيْتُ, والصَّدْرُ ظَهْرًا .. وظَلَلْتُ والْلُقَيْمَةُ مَسْمُومَةُ بالهُمُومِ .. وقَضَمْتُ .
حَبَانِي اللهُ مِنَ الأزَاهِيرِ اثْنَتَيْنِ , ومِنَ الْبَرَاعِمِ اثْنَيْنِ سَكَنُوا حُشَاشَتِي .. تَنْظُرُنِي عَلَيْهِمْ أُخْتِي الَّتِي تَعَدَّدَتْ زِيجَاتِهَا بِسَبَبِ الإنْجَابِ حَتَّى وَهَبَهَا الْبَارِي بَعْدَ سَنَوَاتٍ طِفْلاً أَوْلَقَاً, وأَخِي الَّذِي لَمْ يُنْجِبُ إلَّا بَعْدَ زِيجَتَيْنِ, ولِذَاتِ الْسَبَب حَتَّى حَبَاهُ اللهُ مِنْ زَوْجَتِهِ الثَّالِثَةِ والَّتِي كَانَتْ تَتَمَتَّعُ بِقَدْرٍ وَفِيرٍ مِنْ بَذَاءَةِ الْلِسَانِ والْجَّهْلِ .
بَدَتْ لِي الْحَيَاةُ جَمِيلَةً بِهِم .. تُرَفْرِفُ رُوحِي لِكَلِمَةِ أُمِّي إذَا مَانَادَانِي بِهَا أَيُّهُم؛ فَأظَلُّ أُدَاعِبُهُم وأُهَامِسُهُم الضَّحِكَ , وأُشَاطِرُهُم الْحَيَاةَ وأدْفَعُهُم للاسْتِذْكَارِ والنَّجَاحِ بِتَفَوُّقٍ , ولا أَسْتَفِيقُ إلَّا عَلَى سَوْطِ صَوْتِه يَشُولُ؛ فَيُرْعِبُهُم .. وَيُرْهِبُنِي :
- أنْتُمْ لاتَشْعُرُونَ بِمُعَانَاتِي وآلامِي الَّتِي أعِيشُهَا !
أيُّ آلامٍ وأنَا أسْمَعُ صَوْتَ قَهْقَهَاتِه لاتَنْطَلِقُ إلَّا خَارِجَ الْبَيْتِ ؟ فَأُظِلُّ أبْنَائِي الْحَائِمِينَ بَسْمَةً أُرْوِيهُمْ بِهَا؛ لِيَمْرِئُوا مِنْ حَالَةِ خَصَاصَةٍ لِأُبُوَّةٍ اعْتَقَلَهَا, ولَوَاهَا عَنْهُم لِيَمْنَحَهَا لآخَرَين .
ذَاتَ مَرَّةٍ آبَ إلَى الْبَيْتِ, يَتَطَايَرُ الشَّرَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ يَضْرِبُ هَذَا, ويَلْتَقِفُ ذَاكَ, ويَنْدُبُ حَظَّهُ؛ فَقَدْ أَعْجَزَهُ أَحَدَ الْعُمَلاءِ؛ عِنْدَمَا أحْضَرَ إلَيْهِ تَصْمِيمَاً عَلَى وُرَيْقَةٍ مِنْ دِفْتَرٍ, مُطَالِبَاً تَنْفِيذَهُ عَلَى خَامَاتٍ بِالْحَجْمِ الْكَبِيرِ ُمقَابِلَ مِبْلَغٍ مِنَ الْمَالِ لا بَأْسَ بِهِ, فِي حِين كَانَ الْحَالُ عَسِيرًا, والْجَلْبَةُ وَفِيرَةً .
- كَيْفَ وأنَا ......؟
هَدّأْتُ مِنْ رَوْعِهِ, وَأَبْدَيْتُ لَهُ سُهُولَةَ الْأمْرِ .
فَقَطْ .. اِحْضِرْ لِي وَرَقَاً مِنَ الْحَجْمِ الْكَبِيرِ, وَمَايَلْزَمُ مِنْ أَدَوَاتٍ, وسَأقُومُ بِتَخْطِيطِ مَاطُلِبَ مِنْكَ بِاسْتِخْدَامِ مِقْيَاسَ الرَّسْمِ البِدَائِي الَّذِي تَعَلَّمْتُ أثْنَاءَ الدَّرَاسَةِ , وسَيَسْهُلُ عَلَيْكَ التَّنْفِيذُ بَعْدَهَا .
حَاوَلَ أَنْ يَطْبَعَ فَشَلَهُ عَلَى إرَادَتِي, ولَكِنِّي أفْشَلْتُهُ بِنَجَاحِي , وكَانَتْ بِدَايَةً لِوَصْلٍ مِنْ نَوْعٍ جَدِيدٍ بَيْنَنَا لايَخْرُجُ عَنْ نِطَاقِ عَمَلٍ للْتَرْقِيحِ !.
يتبع